قبل الثورة بشهور قليلة تحدث د. حسن نافعة عن أن “الثورة” هي أشبه بمعادلة كيميائية، لا يكفي وجود العناصر اللازمة والظروف المناسبة لكي يحدث التفاعل، وإنما يجب أن يكون العنصر الأهم في المعادلة في “كتلته الحرجة”، وهي الكتلة التي يظل العنصر خاملا حتى يصل إليها فينطلق التفاعل.
وهذا ما حدث يوم 28 يناير تحديدا، كان ذلك اليوم هو الانطلاقة الفعلية للثورة، فحتى صباح الجمعة 28 يناير لم تكن العناصر قد وصلت للكتلة الحرجة التي تنتج التفاعل، كان يوم 25 يناير هو بداية الثورة، ولكن الثورة الفعلية لم تنطلق إلا يوم 28، فالمتابعون للشأن العام المصري يعرفون أن فعاليات وتظاهرات 25 يناير لم تكن الأولى من نوعها وإنما كانت تتكرر في نفس الموعد كل عام بمناسبة عيد الشرطة، أداة القمع واليد الضاربة للنظام السابق، كانت عادة سنوية أن يخرج النشطاء السياسيون المعتادون والمعروفون بالاسم لكي يظهروا احتجاجهم على ممارسات الشرطة في يوم عيدها السنوي.
فمنذ 2005 والاحتجاجات أصبحت أمرا مألوفا في الشارع المصري وأصبح الكثير من المصريين يعرفون أسماء النشطاء وأماكن وقفاتهم الاحتجاجية المعتادة، كثير من المصريين كان يمر بمبنى نقابة الصحفيين أو دار القضاء العالي أو مجلس الوزراء أو مجلس الشعب ويشاهد العشرات من النشطاء يحتجون ويرفعون اللافتات ويهتفون بسقوط حسني مبارك، لكن لم يشارك أحد في هذه الفعاليات إلا الوجوه المعتادة حتى أصبح النشطاء وضباط الأمن يعرفون بعضهم البعض بالاسم فردا فردا، كذلك ظلت الفعاليات منحصرة بالكامل تقريبا في العاصمة وظلت الغالبية الكاسحة من الشعب تراقب من بعيد أو لا تبدي أي اهتمام، بعض الناس شعرت بالتعاطف مع هؤلاء خاصة مع الأعداد المبالغ فيها من قوات الأمن التي كانت تطوقهم، والبعض الآخر اعتبر أنهم يحرثون في البحر ويضيعون جهدهم هباءا.
حدث قبل 25 يناير أن تظاهر الناس في مناسبات كثيرة، وحدث أن اشتبك المتظاهرون مع الأمن وتعرضوا للضرب والتحرش والاحتجاز والتعذيب، بل وحدث في 6 إبريل عام 2008 أن خرجت مدينة المحلة الكبرى عن سيطرة الأمن وأسقط المتظاهرون صورة كبيرة لمبارك في بروفة مبكرة لما حدث في 28 يناير 2011، حدث كل ذلك ولم تقم الثورة، حيث لم تكن العناصر قد وصلت لكتلتها الحرجة بعد، وإن كانت قد اقتربت منها تدريجيا.
الكتلة الحرجة ببساطة هي النقطة التي يصل فيها الفرد إلى عدم الخوف من عواقب نزوله للشارع ومشاركته في الثورة، وهي النقطة التي تصبح فيها عواقب المشاركة أهون من عواقب السكوت، وتختلف بالطبع من شخص لآخر تبعا لعوامل متعددة، فالنشطاء المثابرون على التظاهر والمعارضة منذ البدايات وصلوا لكتلتهم الحرجة منذ زمن نتيجة قناعاتهم الفكرية وتكوينهم الثوري، فمن يقوم بتفجير انتحاري مثلا يكون قد وصل للنقطة التي يرى فيها الموت أهون مما يلاقيه في الحياة من متاعب، ويرى الجائزة التي سيحصل عليها كشهيد أفضل مما سيحصل عليه في الدنيا لو استمر فيها.
حدثت انطلاقة الثورة عندما وصل ملايين المصريين للكتلة الحرجة، فالثورة لا يقوم بها عشرات ولو ظلوا في الشوارع لسنوات (وهو ما حدث بالفعل)، ولكن تظل هذه حركات احتجاجية معارضة لا تسقط نظام الحكم ولا تحدث إلا تغييرات شكلية، إنما الملايين هم من يصنعون الثورة، عندما يجد الملايين أنفسهم مدفوعين إلى النزول للشوارع، عندئذ فقط يسقط النظام.
هنا أعتبر نفسي نموذجا لهذه الملايين، أنا مثال لأبناء الطبقة المتوسطة، المواطن العادي الذي يتابع أحوال العالم دون أن يتدخل في صناعة السياسة، الحاصل على قدر من الثقافة والتعليم والحياة المستقرة، الذي لديه الكثير مما يخشى عليه، عمل – أسرة – ممتلكات – مصالح – طموحات مستقبلية، الذي لا يحتمل “بهدلة” الاعتقال والتعذيب والإهانة، هذا المواطن يتعاطف في الغالب مع النشطاء السياسيين ولكنه لم يكن يوما أحدهم، هذا مواطن “إصلاحي” وليس ثوريا، لكنه اقترب تدريجيا من كتلته الحرجة بتراكم الأحداث (المادة 76 – المحلة – خالد سعيد – انتخابات 2010 – خليهم يتسلوا – 25 يناير والأيام التالية له) إلى أن جاءت لحظة انطلاق التفاعل (trigger) بقطع الاتصالات يوم 28 يناير حيث انعزل عن العالم وفقد السيطرة على أعماله وفقد الاتصال بأسرته، باختصار أصبحت عواقب النزول للشارع أهون من عواقب البقاء في المنزل، ونزل للشارع متظاهرا للمرة الأولى ووجد في الشارع الملايين مثله.
مرت هذه المرحلة وسقط حسني مبارك فتراجعت الكتلة الحرجة كثيرا نتيجة غياب العامل المؤثر، بل وتراكمت مخاوف جديدة على الجانب الآخر، الخوف من الانفلات الأمني، الخوف من نقص الإمدادات الغذائية، تجربة اللجان الشعبية، الخوف من سيناريوهات المستقبل غير الواضحة، كل ذلك أدى لتراجع المواطن العادي عن الطريق الثوري وعودته إلى طريقه الإصلاحي بالانخراط في أحزاب سياسية أو المساهمة في أعمال مجتمعية مدفوعا بآمال المستقبل الذي يفترض أن يكون مشرقا بعد رحيل مبارك.
بناءا على ذلك، لا يجوز لأي جهة أن تتحدث عن “إشعال ثورة جديدة” لأنه ببساطة لا أحد يستطيع إعادة جماهير الطبقة المتوسطة إلى الشارع مالم تصل للكتلة الحرجة مرة ثانية وهو ما أستبعد حدوثه في المستقبل القريب، صحيح أن ميدان التحرير امتلأ في مناسبات متعددة بالمواطنين واقترب – من حيث الشكل – إلى ما كان عليه خلال الأيام الثمانية عشر للثورة، ولكنه يختلف كثيرا من حيث المضمون، فالعدد وحده لا يكفي، والحشد ليس غاية في حد ذاته بل هو وسيلة، ليس الميدان الآن هو ميدان يوم 11 فبراير، لم يأت الناس أيام الثورة للميدان في أتوبيسات تعود بهم لمحافظاتهم آخر النهار، لم يأت الناس أيام الثورة للميدان للمنافسة على مقاعد برلمانية أو سلطات أو لإثبات تفوق فريق معين في العدد على الفرق الأخرى، لم يأت الناس أيام الثورة للميدان خلف شخص ما يدعوهم للنزول فينزلون ويدعوهم للاعتصام فيعتصمون، لم يكن بالميدان خلال الثورة ما نسمع عنه اليوم من تحرش زائد عن الحد وطائفية واستقطاب ديني وأيديولوجي عميق، تغير شكل الميدان بتغير نوعية المتواجدين فيه وتحول أهدافهم، لم تقم ثورتنا بهذه الكيفية، وقطعا لن تقوم ثورة جديدة بهذه الكيفية.
أنا الكتلة الحرجة للثورة، الطبقة المتوسطة غير المسيسة وغير الثورية بطبيعة تكوينها هي من حولت الاحتجاجات المعتادة إلى ثورة أطاحت برأس النظام ثم عادت لحياتها المعتادة في انتظار جني ثمار الثورة التي صنعتها لا في انتظار الثورة الجديدة، الطبقة المتوسطة لا تحركها أيديولوجيات ولا يؤثر فيها ابتزاز عاطفي ولا يمكن حشدها كالقطيع خلف شخص ما، ولكن تظل غير فاعلة حتى تصل إلى كتلتها الحرجة فتخرج دون توجيه من أحد لتطيح بمن أوصلها لهذه الدرجة أيا كان .. فاحذروا الطبقة المتوسطة.