صديقي السلفي، لطالما تجادلنا حول أمور تعتبرها أنت من أصول العقيدة وأعتبرها أنا مسائل حياتية خاضعة لتغيرات الزمان والمكان والظروف، لطالما تناقشنا في مسائل “الولاء والبراء” و”الحاكمية” و”تطبيق الشريعة” و”ولاية المرأة” و”الاقتصاد الإسلامي” و”ولي الأمر” وغيرها، وكنت دائمًا تستشهد بآراء شيوخك من دعاة السلفيين وتنتقد “النظام الحاكم” على إصراره على الحكم بغير ما أنزل الله.
والآن وقد تبدلت الظروف ووصل للأغلبية البرلمانية ولمنصب رئيس الجمهورية من يصفون نفسهم بـ”الإسلاميين” وتشكلت جمعية تأسيسية أغلبيتها منهم لوضع دستور جديد لمصر، إذ بي أجدك وأجد شيوخك وقد نسيتم (أو تجاهلتم متعمدين) ما كنتم تصرون عليه وتكفرون الدولة وتخرجون الحاكم من الملة بسببه، هل تذكر كم مرة تلوت علي قول الله سبحانه وتعالى “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” – “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” – “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”؟
هل تبدل ما أنزل الله أم بدلتم أنتم دينكم؟ لماذا قبلتم وقبل شيوخكم بدستور لا يتضمن ما تعتقدون موقنين أنه من أصول العقيدة بل يتعارض معه ويضاده؟ أنا هنا أصر على آرائي التي تختلف مع ما تعتقدونه ومازلت أراها مسائل حياتية خاضعة لتغيرات الزمان والمكان والظروف، بل وأتفق تمامًا مع نصوص الدستور التي سأذكرها كأمثلة (وإن كنت أرفض مشروع الدستور لأسباب حقوقية وأخلاقية)، ولكن تذكر أن ذلك كان رأيي منذ البداية وما زال، أما أنتم فلا أفهم كيف تقبلون نصوصًا تخالف اعتقادكم وتدعون بسطاء الناس للموافقة عليها.
بداية دعنا نتفق أن وجود شيوخ السلفيين (مثل د. ياسر برهامي و د. محمد يسري إبراهيم والشيخ سعيد عبد العظيم والشيخ صلاح عبد المعبود والشيخ محمد الكردي والشيخ شعبان عبد الحميد ويونس مخيون وغيرهم) في الجمعية التأسيسية هو في الأساس بصفتهم “رجال دين” وليس لأي صفة أخرى فهم ليسوا متخصصين في القانون أو السياسة، إذًا فما يقترحونه في الجمعية التأسيسية هو ما يمثل ثوابت عقيدتهم وليس طرحًا سياسيًا أو قانونيًا يقبل التنازل أو التفاوض، هنا تكمن خطورة إقحام الدين في السياسة، فالسياسي يمكنه أن يفاوض ويتنازل عن بعض مطالبه مقابل تمرير مطالب أخرى، أما رجل الدين فلا أفهم كيف يتنازل عن بعض دينه ويفاوض عليه!
بغض النظر عن أن “الديمقراطية” حرام عند جموع السلفيين وكثير من شيوخهم صرحوا بذلك علنًا، وبغض النظر عن أن فكرة “الدولة” بشكلها الحالي مخالف لما يعتقده السلفيون بدليل عدم وقوفهم في أي مرة للسلام الجمهوري للدولة التي يضعون دستورها، إليك بعض الأمثلة الصارخة من مشروع الدستور:
- في قضية “ولاية المرأة وغير المسلم”، المادة 134 تحدد شروط المرشح لرئاسة الجمهورية ولا تشترط دينًا أو جنسًا، وهذه شروط نهائية وليس في المادة عبارة “على النحو الذي ينظمه القانون”، وبالتالي يمكن ترشح المرأة وغير المسلم للرئاسة وقد يفوز/تفوز بالمنصب (ربما ليس الآن ولكن بعد 30 سنة)، أين ما كنتم تصرون عليه من حرمة ولاية المرأة وغير المسلم؟ أين حديث “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”؟ وأين قاعدة “لا ولاية للكافر على المسلم” هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- في قضية “الحاكمية”، طرح د. ياسر برهامي تعديل المادة 5 “السيادة للشعب” إلى “السيادة لله وحده” ودافع عنها بالأدلة الشرعية، ثم فوجئنا بالمادة تطرح للتصويت دون تعديل ويتم الموافقة عليها! أين ذهبت آية “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”؟ وأين ذهبت آية “وإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ”؟ هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- في قضية “الشريعة” رأينا جميعًا إصرار النواب السلفيين على إضافة عبارة “بما لا يخالف شرع الله” قبل أو بعد القسم الدستوري الرسمي الذي يقسمه نواب البرلمان في أول جلسة “أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا على النظام الجمهورى وأن أحترم الدستور والقانون وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه”، قالها جميع النواب السلفيين دون استثناء تقريبًا في مجلسي الشعب والشورى رغم مخالفتها للائحة وللدستور زاعمين أن في الدستور والقانون ما يخالف شرع الله فلا يمكنهم احترام ذلك، فلما جاء وقت كتابة الدستور وضعوا نص القسم الدستوري كما كان ودون تغيير رغم أنه ما زال في الدستور والقانون ما يخالف ما يعتقدون أنه شرع الله! هل قررتم أنه يمكنكم الآن مخالفة شرع الله؟ هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- في قضية “الاقتصاد الإسلامي” الذي طالما تحدثتم بأن خلاص هذه البلاد لا يكون إلا بتطبيقه (لا أعلم تحديدًا ما هو تعريف الاقتصاد الإسلامي إلا فيما يتعلق بإلغاء فوائد البنوك وعدم الاستثمار في الأنشطة المحرمة، هذه مجرد ضوابط للاقتصاد وليست منهجًا اقتصاديًا متكاملًا كالرأسمالية والاشتراكية مثلًا)، فأين في هذا الدستور ما ينص على إلزام الدولة باتباع الاقتصاد الإسلامي؟ وكيف تقبلون اختلاط أموال الضرائب والجمارك على الخمور بأموال الدولة (علمًا بأن الجمارك حرام عند جمهور السلفيين)؟ ألا ترون كيف رفعت الحكومة الضرائب على الخمور لزيادة موارد الدولة من المال “الحرام”؟ هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- في قضية “ولي الأمر” من الثابت عند السلفيين عدم جواز عزل ولي الأمر ولا الخروج عليه طالما سمح بإقامة الصلاة، فكيف تقبلون بالمادة 133 التي تحدد الفترة الرئاسية بأربع سنوات وبحد أقصى فترتين وبالمادة 152 التي تبيح للبرلمان محاكمة الرئيس وعزله؟ هل في سيرة السلف الصالح حاكم تم تحديد فترة ولايته أو حاكمه ممثلوا “الرعية”؟ هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- في قضية “الولاء والبراء” كيف تقبلون المادة 33 “المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم فى ذلك”؟ هل ما تعتقدون أنه شرع الله يقول بمساواة المسلم بغير المسلم في الحقوق والواجبات؟ هل يقول بمساواة الرجل بالمرأة؟ أين الجزية؟ أين الوثيقة العمرية؟ أين آية “أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ”؟ أين آية “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ”؟ هل تبدل دين الله أم بدلتم أنتم دينكم؟
- أما عن موضوع المادة الثانية وما أضيف من مادة تفسيرية (مادة 219) فهي أولًا لا تضيف جديدًا على حكم المحكمة الدستورية العليا سنة 1994 في تفسير عبارة مبادئ الشريعة الإسلامية وثانيًا لا تمنع وجود مصادر أخرى للتشريع، وقد شاهدت بعيني حملة يقودها د. شهاب أبو زهو (من علماء السلفيين في الإسكندرية) لجمع التوقيعات من أجل إضافة مادة دستورية نصها “الشريعة الإسلامية مصدر كل تقنين” ولم يتم قبول طلبه.
فلنكتف بهذه الأمثلة ونتفق إذًا على أن هذا الدستور يخالف ما تعتقدون أنه ثوابت العقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة في كثير من المواضع، ولكنكم تقبلونه وتدعون عامة الناس (الذين يثقون في الشيوخ ثقة عمياء) لقبوله، وأنا أعلم أسباب قبولكم للدستور التي تتلخص في ما يلي:
- مساندة الرئيس “الإسلامي” محمد مرسي ودعم شرعيته.
- قطع الطريق على “العلمانيين والنصارى” الذين يريدون إسقاط المشروع الإسلامي (كما تظنون).
- لأن الطرف الآخر يقف معه الإعلاميون والفنانون والفلول.
- استقرار الأوضاع وبدء بناء مؤسسات الدولة.
وجميع ما سبق أسباب أتفهمها وأقبلها، ولكن بشرط أن تعترف أنت أيضًا – صديقي السلفي – أنك تبيع دينك بدنياك، فكل ما سبق لا يبرر لك التنازل عن ثوابت دينك (أو ما تعتقد أنت أنه ثوابت دينك)، أنت توافق على مشروع دستور علماني بحت لا يختلف (من وجهة نظر دينية) عن دستور السادات ومبارك إلا في مادة وحيدة وشكلية، إذا كنت تقبل هذا الدستور فلا تحدثني مرة أخرى عن “شرع الله” ولا تناقشني في ثوابت العقيدة، تعال إذًا نناقش المواد من وجهة نظر نفعية بحتة.
اقرأ رأي السلفية الجهادية مثلًا .. أختلف معهم تمامًا بالتأكيد لكني أحترم ثباتهم على المبدأ وعدم التنازل عما يظنون أنه الحق.
اقرأ كذلك بيان جبهة علماء السنة الرافض لمشروع الدستور الذي جاء فيه أن “الدستور باطل بكتاب الله وسنة رسوله والشريعة الاسلامية منه براء وممن كتبه وممن صاغه وممن دعا الناس للاستفتاء عليه”.
شاهد كذلك هذه الفيديوهات لعلماء السلفيين في مصر وخارجها:
قارن مثلًا مشروع الدستور الإسلامي الذي وضعه الأزهر الشريف سنة 1979 بدستور برهامي وأتباعه واحكم بنفسك، إذا كنت تريد دستورًا “إسلاميًا” فهذا هو النموذج، أما ما نستفتي عليه اليوم فهو دستور علماني وضعي لا يحمل من الشريعة (كما تفهمونها) إلا قشرة رقيقة خدعوكم بها ليحصلوا على تأييدكم.
أنت تتنازل عن عقيدتك خوفًا من شماتة لميس الحديدي، تبيع دينك لتقول للبرادعي وحمدين صباحي “موتوا بغيظكم”!! بالله عليكم مالكم كيف تحكمون؟
كلمة أخيرة، أنت لا تبيع دينك بدنياك فحسب يا صديقي، فالتيار السلفي لم يحصل على أي مكاسب من وصول الإخوان للحكم، كم وزير سلفي في الحكومة؟ كم محافظ سلفي؟ كم سفير سلفي؟ الإجابة لا أحد، استحوذ الإخوان بمساعدتكم على “مفاصل الدولة” وتركوا بعضها لرجال النظام السابق (الفلول)!
عفوا يا صديقي .. أنت تبيع دينك بدنيا غيرك.
تحديث: تم نشر المقال في موقع “بيت الحوار“