من زمان كنت عايز اكتب ثريد عن ليه بطلنا نعمل عمارة كلاسيكية زي بتاعة وسط البلد وليه المباني بقت شبه بعضها من غير هوية مميزة لكل بلد، والحقيقة ده موضوع معقد جدا ووجهة نظري فيه مختلفة شوية عن الشائع، لكن خلينا متفقين ان العمارة عموما علم يقبل اختلاف المدارس، مش ١+١=٢
طيب خلونا نتناول الموضوع من خلال الإجابة على شوية أسئلة، أولا هل احنا في مصر بس اللي بطلنا نعمل النوع ده من العمارة؟ طبعا لأ، الأوروبيين (أصحاب الملكية الفكرية نفسهم) بطلوه من قبلنا، ده اللي بيتعمل دلوقتي في لندن/باريس/روما/مدريد بترتيب الصور
ثانيا هل الطراز ده كان بيعكس هوية المدن المصرية؟ إلى حد كبير آه في وقته اللي هو لحد الخمسينات لما كان عندنا تنوع ثقافي وعرقي، وكان بيعكس الجانب الأوروبي بس من الهوية دي، في الحقيقة دي دلائل هيمنة إيطالية/فرنسية/انجليزية، الهوية المصرية كانت في الأحياء الشعبية وده نقاش مختلف
ثالثا طيب من وجهة نظر معمارية بحتة هل الطراز ده نفسه بيعكس هوية متفردة وبيخدم وظيفة المبنى؟ الأربع صور اللي تحت هل تقدر تعرف (بدون الاستعانة بجوجل) كل مبنى موجود في أي بلد؟ طب كل مبنى وظيفته إيه؟ (محكمة ولا جامعة ولا مستشفى إلخ) الإجابة مش هتعرف لأن مكانش مهم الوظيفة قد الشكل
وكتير من المباني الكلاسيكية في العالم اتغيرت وظيفتها كذا مرة من مقر قيادة الجيش لمستشفى عسكري لمركز ثقافي لمتحف وهكذا، وبالتأكيد المبنى مقامش بوظيفته بكفاءة وفعالية في أي فترة من الفترات دي لأنه ببساطة الوظيفة مكانتش متاخدة في الاعتبار بالقدر الكافي
طيب نيجي للسؤال الأهم والأكثر إثارة للجدل بقى: بكام؟ وليه؟ المباني دي اتكلفت مبالغ فلكية عشان أوروبا كان عندها موارد لا نهائية جاية من هيمنتها على العالم ونهبها لموارد المستعمرات، وعشان الكنيسة كانت مسيطرة على الملوك وبرضه عندها موارد لا نهائية بما أنها بتمثل “الرب” على الأرض
وبالتالي المباني وقتها كانت وسيلة للتفاخر بين الملوك والإمبراطوريات ولإثبات تفوق الدولة وهيمنتها وحجم ثروتها أكتر منها مشاريع فعلية لها وظيفة ودراسات جدوى، وده طبعا ينطبق برضه على الكنائس والكاتدرائيات ولنفس الأسباب، أكيد انت مش محتاج كل الدهب ده عشان تصلي
نقدر نقول ان كل ده انتهى بنهاية الحرب العالمية التانية لما العالم فاق لنفسه ولقى مدن بالكامل مدمرة وانهيار اقتصادي وفقر ونقص في الموارد والقوى العاملة، هنا كان لازم نبتدي نبني للناس مش للملوك، ولازم نحسب التكلفة ونعمل دراسات جدوى ونقارن بين البدائل عشان نختار الأكثر كفاءة
كمان مع نجاح حركات التحرر في العالم التالت ظهرت دول جديدة محتاجة تتبني ومعندهاش وفرة الموارد اللي كانت عند القوى الاستعمارية اللي برضه فقدت شلال الموارد ده وخرجت من الحرب منهكة، ومن ناحية تانية صعدت حركات فكرية وفلسفية تقدمية عايزة تخلق عالم مختلف، العالم كله دخل في حقبة جديدة
مثال مهم ومحوري جدا هنا هو سنتر بومبيدو في باريس، ده كان مبنى ثوري بكل المقاييس (وكان مقصود انه يبقى ثوري بما إنه اتصمم سنة ٧١ بعد ٣ سنين بس من ثورة طلبة باريس ٦٨)، المعماريين هنا قدمولنا مفهوم ثوري للتصميم قايم على فكرة الشفافية لدرجة إظهار الأنظمة الانشائية والميكانيكية بره
كمان فيه نقطة مهمة مش لازم نغفلها هي تطور تكنولوجيا ومواد البناء، يعني زمان مكانوش بيبنوا أبراج عشان ده أصلا مكانش ممكن هندسيا، أول ما بقى ممكن بظهور الخرسانة المسلحة والحديد (والجدوى الاقتصادية) لقينا الأبراج طلعت علطول في أمريكا اللي كانت بتمثل مستقبل العالم وقتها
الأوروبيين وقتها كانوا بيبصوا لأمريكا باعتبارها مسخ وبلد بلا روح (زي ما بيتقال على دبي دلوقتي) بس الأمريكان كان عندهم معطيات مختلفة أدت للنتائج دي، ازدهار اقتصادي غير مسبوق، قوى عاملة وعقول مبدعة هربانة من حروب أوروبا، طاقة رخيصة، أراضي شاسعة، كل ده غير مفهوم العمارة في العالم
مع مرور السنين ونضج الأفكار دي من مجرد الرغبة في بناء ناطحات سحاب لإبهار العالم بفكرة الحلم الأمريكي وصولا لرسوخ علوم زي إدارة المشاريع والتطوير العقاري وهندسة القيمة قدرنا نوفر مسكن مناسب لمليارات البشر حول العالم مش بس من الطبقات الغنية ولا في الدول المتقدمة
دلوقتي حضرتك بتشتري شقة اتدرست كويس أوي من ناحية المساحات والcirculation وكفاءة استهلاك الطاقة والقيمة مقابل التكلفة، مش مجرد “مطرحين وصالة وعفشة مية” وخلاص، وانا هنا بتكلم عن الوضع الطبيعي الصحيح مليش دعوة بالممارسات العشوائية في أسواق معينة عشان دي قضية تانية خالص
أما لو اتكلمنا عن المباني العامة (الأبراج المكتبية وما شابه) فالنقطة المحورية هنا هي اختلاف مفهوم “المكتب” من زمان لدلوقتي، نتيجة تغيرات ثقافية وتكنولوجية كتير مكان العمل دلوقتي بقى قايم على الشفافية وتمكين الحوار بين الموظفين مش كل واحد قاعد في أوضة مقفولة
غير انه مع زيادة ساعات وضغوط العمل بقينا محتاجين أماكن عمل أكثر إنسانية، لها إطلالة خارجية، فيها أماكن استرخاء، وبالتالي بقينا محتاجين مساحات مفتوحة مش المسقط التقليدي اللي فيه مكاتب مرصوصة ورا بعض زي السجن، أنا شخصيا كان من أسباب اني سبت شغل قبل كده ان مكانش عندي شباك
كل اللي فات ده (بالإضافة لمعايير معمارية تانية زي كفاءة استخدام الفراغات وتوزيع الحركة بس مش عايز ادخلكم في تفاصيلها) بتودينا تلقائيا للعمارة المعاصرة اللي ممكن تطبيقها في أي مكان (زي العمارة الكلاسيكية برضه زي ما شفنا في الأول) بس بالمواصفات والخصائص الأنسب لكل مشروع حسب سياقه
آخر نقطة هختم بيها هي الخيارات والبدائل اللا نهائية اللي بتديهالنا العمارة المعاصرة بمجرد عدم التقيد بقوالب ثابتة، مثال واحد عليها محطة توليد الكهرباء الرئيسية في كوبنهاجن، المعماري خلاها نقطة جذب للسكان في الصيف والشتاء بدل ما تكون مجرد مبنى قبيح وكئيب والناس بتبعد عنه شكرا