في اعتقادي الشخصي أنه لو سارت الأمور كما كان ينبغي أن تسير فإن رئيس مصر 2012 كان يجب أن يكون أحد المرشحين حمدين صباحي أوعبد المنعم أبو الفتوح إذا تنازل أحدهما للآخر ودعمه كما كان المتوقع والمنطقي، كان يمكن لأحدهما بدعم الآخر أن يحصل على توافق القوى الوطنية في مواجهة مرشح جماعة الإخوان الذي كان سيفقد الدفعة الحاسمة من “عاصري الليمون” وأمام مرشح القوى التقليدية الذي كان بدوره سيفقد أصوات النسبة الكبيرة ممن اصطلح على تسميتهم بـ”حزب الكنبة” الذين صوتوا له خوفًا من قيام دولة إخوانية.
كان السيناريو المنطقي أن تتوافق القوى الوطنية على أحد المرشحين – بعد أن يتفق المرشحان نفسهما – ويحصل بالتالي على نسبة تصويت تؤهله لجولة الإعادة التي كان سيحسمها بالتأكيد إما أمام مرشح لن يبقى له إلا أصوات جماعته أو آخر لا يمثل التغيير المنشود بعد ثورة.
إلا أن المرشحين لم يتفقا وأصر كلاهما على خوض الانتخابات فخسرا معًا وخسرت الثورة معهما ودخلت البلاد في دوامة الاستقطاب (مسلم/كافر – إرهابي/انقلابي – وطني/خائن – ثوري/فلول – …) التي لم تنته للآن ولا تبدو لها نهاية قريبة، ولم نعرف حتى الآن لماذا لم يتفقا، ولم نعرف من الذي عرقل الاتفاق الذي كان متوقعّا، إلا أن اعتقادي أن الاثنين اتفقا على رفض التنازل لسبب أهم من ثقة كل منهما في شعبيته أومؤيديه أو برنامجه، السبب الرئيسي هو “الأيديولوجية”! وهنا تكمن المأساة.
بالنظر لتاريخ المرشحين الطويل في العمل السياسي نجد تشابهًا كبيرًا، بدأ الاثنان العمل العام منذ مرحلة الجامعة في السبعينات حتى أن لكليهما تسجيل صوتي يفتخر به عندما قام كل منهما بمناقشة الرئيس السادات علنًا وبشجاعة (تحسب للسادات أكثر مما تحسب لهما في رأيي)، واصل الاثنان العمل العام من وقتها حتى تعاونا معًا ضد نظام مبارك قبل الثورة، الاثنان في نفس العمر تقريبًا وشعبيتهما متقاربة، فلماذا إذًا لم يتنازل أحدهما للآخر؟ الإجابة: لأن كل منهما يتبع بصرامة شديدة أيديولوجية معاكسة تمامًا لما يتبعه الآخر، يرى كل منهما الحل في اتجاه مخالف تمامًا لما يراه عليه الآخر، كلاهما يضع أمامه نماذج للنجاح مخالفة لنماذج الآخر بل ومتضادة معها، فبينما يحلم حمدين بنظام عبد الناصر وتشافيز (وربما يتطرف إلى حد الإعجاب بصدام حسين والقذافي) يحلم أبو الفتوح بنظام إردوجان وحركة حماس وربما يتطرف إلى حد الإعجاب بتجربة جعفر نميري وعمر البشير بل وأسامة بن لادن لو تطلب الأمر، يتمسك كل منهما بـ”عصر ذهبي” نقي لا تشوبه شائبة عمّ فيه الرخاء فينبغي بالتالي العودة إليه، إلا أن لكل منهما عصره الذهبي الخاص، وبالنسبة له فإن عصر الآخر الذهبي كان مظلما وليست فيه حسنة واحدة، بينما الحق أن كل العصور متشابهة ولكلّها مساوئ ومزايا، لكن عين الأيديولوجية ترى فقط المزايا – وتنسبها لنفسها – وتتعامى عن المساوئ وتبررها، لكل ذلك كان من المستحيل أن يقبل أحدهما بتسليم السلطة للآخر بل على العكس ربما فكّر كلاهما في التخلص من الآخر – كشخص وكأيديولوجية – إذا وصل هو للسلطة.
المأزق هنا إذًا هو مأزق الأيديولوجية، يعتقد كل فريق أن أيديولوجيته هي الحل وأن الآخرين على باطل، يعتقد كل فريق أن أيديولوجيته تحمل الحل الكامل وتستطيع – وحدها – الإجابة عن كل الأسئلة بمنتهى السهولة، يعتقد كل فريق أن الآخر يحاربه وأن أيديولوجيته لن تنتصر إلا بالقضاء على الآخرين، بينما إذا عدنا للبرامج الانتخابية سنجد أن كليهما قدم برنامجًا هزليًا خطابيًا لا يحمل أي حلول حقيقية، الاختلاف الوحيد أن كل منهما كتب “خطبته” باللغة والاصطلاحات التي تناسب أيديولوجيته.
أما إذا أردنا الحقيقة فلقد توقف العالم عن إدارة الدول بناءًا على الأيديولوجية منذ زمن بعيد، كتب د. جلال أمين مثلًا في “قصة الاقتصاد المصري” عن هذا التحول الهام في العلاقة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي مع بدايات الستينات (أزمة الصواريخ الكوبية) وكيف حدث اتفاق غير مكتوب على التعاون بين المعسكرين بما يخدم مصالحهما بدلًا من التصادم، وكيف تم ذلك بعد أن خرج من المشهد الرئيسين الذين حكما بناءًا على الأيديولوجية (كينيدي في الولايات المتحدة وخروشوف في الاتحاد السوقيتي).
يمكننا القول أن أنظمة الحكم الناجحة في العالم الآن تحكمها مجموعة من المبادئ العامة والأهداف الاستراتيجية تختلف من دولة لأخرى ولكنها نادرًا ما تتغير بشكل جذري داخل الدولة الواحدة، فيحدث أن تتعاقب على تولّي المسئولية حكومات ذات أغلبية يسارية أو يمينية ولا تحدث تغييرات “ثورية” في هيكل الدولة أو سياستها كالتي يريدها ويلحّ عليها السياسيون في مصر، حدث ذلك من قبل وما زال يحدث في فرنسا وإسبانيا واسكندنافيا ودول كثيرة فلم تتحول فرنسا مثلًا إلى دولة شيوعية ولم تؤمم المصانع مع فوز حزب يساري بالانتخابات، ولم تطرد فرنسا المهاجرين أو تعلن حربًا صليبية جديدة مع وصول حزب يميني للسلطة، لم تتغير ثوابت وسياسات الدولة الفرنسية وخططها الاستراتيجية، التغيير مسموح فقط داخل إطار الخطوط العريضة التي تحقق مصالح الدولة على المدى البعيد، فلا مانع من زيادة أو تخفيض الضرائب، تعديل السياسات البيئية، بعض الشد والجذب مع الدول الأخرى، لكن تظل الدولة الفرنسية كما هي منذ عشرات السنين.
في اعتقادي أن الاستقطاب الأيديولوجي الموجود في مصر منذ زمن لن ينتج عنه نموذج دولة ناجحة، بل ستنتج عنه تجارب فاشلة جديدة في إطار إعادة اختراع العجلة الذي استنزف وقتنا ومواردنا لزمن طويل، النظام النموذجي والعصر الذهبي الموجود فقط في عقل وأحلام أتباع الأيديولوجيات غير موجود في الواقع، فلسنا اليوم في الخمسينات لنعيد تجربة عبد الناصر ولسنا فنزويلا أو تركيا لنستنسخ تجاربهما، كما أننا لا ندرك الأبعاد الحقيقية لهذه التجارب لنحكم عليها، نحن ننظر فقط إلى الجانب الذي يعجبنا ونتجاهل البقية، تجربة لولا دا سيلفا الاشتراكية التي نجحت في البرازيل مثلًا تزامنت مع تخفيض حاد للدعم فهل يناسبنا ذلك؟ تجربة الأرجنتين في النهوض بعد إفلاس البنوك وانهيار اقتصاد الدولة تمامًا تزامن مع الانصياع لشروط صارمة للبنك الدولي فهل يقبل بذلك محللو الفضائيات في مصر؟ تجربة تركيا لا تخلو من انتهاكات صارخة للصحافة وقمع للأقليات العرقية فماذا سيقول نشطاء حقوق الإنسان؟ القصد باختصار أن التجربة النموذجية ليست موجودة في هذا العالم، الدول الحديثة الناجحة تحركها مصالحها الاستراتيجية ومبادئها العامة التي لا تغيرها أيديولوجية الشخص الجالس لفترة محددة من الزمن على كرسي السلطة.
اخترع الإنسان العجلة منذ آلاف السنين وتراكمت التجارب والخبرات الإنسانية بعدها على مر العصور حتى وصلنا لما نحن عليه اليوم، التوجه العام في عالم البرمجة مثلًا يميل الآن إلى وضع معايير وصيغ موحّدة يتفق عليها الجميع ويستطيعون البناء من خلالها والتواصل فيما بينهم على أساس الأكواد التي اتفق عليها الجميع مسبقًا، في عالم البناء والعمارة كذلك تكاد تكون المعايير محصورة في نوعين أو ثلاثة يعمل من خلالها الجميع ويتواصلون ويكملون بعضهم البعض، يعمل مهندسون قادمون من بلاد بينها آلاف الأميال على نفس المشروع وبنفس القواعد المتفق عليها، لم يعد في هذا العالم مكان لمن يريد أن يضيع وقته في مناقشة بديهية استدارة العجلة، لا مكان لمن يعتقد أنه يعرف كل شيء ويملك الحلول الكاملة في أيديولوجيته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.