يوميات الثورة – الجزء الأول: جمعة الغضب

Hussein Articles, Blog Posts

الجمعة 14 يناير – الإسكندرية

هروب زين العابدين بن علي من تونس والأفراح تعم البلاد ومشاهد من قناة الجزيرة لاحتفالات التونسيين في أوربا وفي قطر، أعرف لأول مرة أن البيتين الشهيرين لـ “أبي القاسم الشابي” موجودين ضمن النشيد الوطني التونسي ولا أستغرب أن يكون قائل هذه المعاني تونسي الجنسية:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي .. ولابد للقيد أن ينكسر

كان هذا اليوم – وهذا الفيديو تحديداً – هو محرك الأمل لحدوث مشهد مماثل في مصر، ولكنه لم يزد عن مجرد أمل نستبعد تحققه لعلمنا بمدى صلابة النظام الأمني والدولة البوليسية في مصر، وكنا نتحسر على حالنا بالمقارنة بالتوانسة الذين حصلوا على حريتهم، “بن علي هرب.. بن علي هرب“.

الثلاثاء 20 يناير – الإسكندرية

أتحدث مع بعض الأصدقاء عن الثورة التونسية ونستبعد جميعاً تكرار الأحداث في مصر، أنا شخصياً تهكمت على الدعوة المنتشرة على فيس بوك منذ أيام لتحرير مصر يوم 25 يناير في ذكرى عيد الشرطة وأقول لأصحابي أن الثورة لا يمكن أن تكون بموعد سابق، الثورة تأتي تلقائية.

الأحد 23 يناير – مطار الأقصر

جميع الأتوبيسات السياحية التي تنتظر السياح داخل المطار مكتوب عليها “جرانة للسياحة”، أعلق على الملاحظة لأخي (زهير جرانة آخر وزير سياحة في عهد مبارك).

الاثنين 24 يناير – قريتنا بمركز إدفو

لا أحد في القرية حتى من المتعلمين يعرف شيئاً عن التحضير لمظاهرات كبيرة غداً في يوم عيد الشرطة، يعتبرون الموضوع كله من شئون “ناس بحري” التي تعني عندهم القاهرة والإسكندرية، ولكن الجميع سعيد بالثورة التونسية واحتمال اندلاع ثورة في الجزائر واليمن، وكثير من أهل القرية يسأل عن الوضع الأمني في الإسكندرية بعد تفجير كنيسة القديسين.

فجر الثلاثاء 25 يناير – مطار القاهرة

الوضع هادئ وطبيعي، التاكسي يوصلنا لمنزل أخي في مدينة نصر في سهولة ويشكو من التعامل السيء لوزارة المالية مع سائقي التاكسي الأبيض بعد الوعود البراقة في البداية ثم يتطرق للثورة التونسية ويؤكد بشكل قاطع أن “مصر ليست تونس”.

عصر الثلاثاء 25 يناير – القاهرة

بعد نوم عميق من إرهاق السفر، القنوات الإخبارية لا تذكر الكثير عن مصر، الموضوع الرئيسي هو الأوضاع في تونس بعد هروب بن علي وتحذيرات من كوارث اقتصادية وأمنية ثم موضوع الوثائق المسربة من السلطة الفلسطينية وجدل كبير حول تخوين قيادات السلطة، على الإنترنت أخبار متفرقة عن مظاهرات في القاهرة والإسكندرية وبعض المحافظات مع تقديم الورود للشرطة ولا احتكاكات حقيقية.

في طريق العودة للإسكندرية نقطع كوبري أكتوبر من طريق النصر إلى كوبري 15 مايو في زمن قياسي، المرور سهل جداً ولا يوجد زحام، يبدو الوضع بالأسفل متوتراً بوجود قوات الأمن المركزي بكثافة عند المطالع والمنازل ولكن لا نرى شيئاً غير طبيعي، نتوقف في شارع جامعة الدول العربية للغذاء، الشارع غير مزدحم وأماكن الانتظار الخالية كثيرة، نكمل طريقنا عبر المحور إلى الطريق الصحراوي ونصل الإسكندرية في المساء والوضع هادئ تماماً.

التلفزيون والإنترنت ينشران أخبار عن اعتصام المتظاهرين في ميدان التحرير، أبدأ في الاستغراب فقد مرت فترة دون أن تسمح الدولة بأي اعتصامات، وبالتأكيد لم نسمع عن اعتصام في ميدان التحرير قبل اليوم، أشعر بالإرهاق والرغبة في النوم ولا أعرف ما الذي يحدث ولكني غير متفاءل ومتيقن من عدم سماح الأمن لهذه الحشود بالبقاء في الميدان حتى الصباح، قلت لزوجتي قبل أن أنام: “مش هسيبوهم للصبح، لو سابوهم للصبح هتبقى ثورة”.

الأربعاء 26 يناير – الإسكندرية

أستيقظ على مشاهد من قناة الجزيرة لفض الاعتصام بالقوة وبخراطيم المياه، يؤسفني المشهد وأبدأ في متابعة الأخبار ثم أخرج للقاء أصدقائي ومازال عندنا جميعاً يقين بأن ما حدث هو مظاهرة وانتهت مثل الكثير من المظاهرات السابقة والتعامل الأمني الغشيم ليس جديداً على الشرطة المصرية، أكدت لهم على يقيني بعدم سماح الأمن ببقاء المعتصمين في الميدان حتى الصباح وودعت أحد الأصدقاء مازحاً “أشوفك بعد الثورة بقى” .. ولم أره فعلاً مرة أخرى إلا بعد التنحي !!!

في المساء تبدأ الأحداث في الدخول إلى مرحلة الجدية – بالنسبة لي على الأقل – مع عودتي للمتابعة على الإنترنت، يبدأ الحديث عن المطالبة بتنحي الرئيس ! ويظهر منشور بمطالب “انتفاضة الشعب المصري”، ويبدأ حجب “تويتر” وبطء شديد في فيس بوك في مصر مما يجعل متابعة تطور الأحداث أصعب ولكن نبتكر طرق مختلفة لمتابعة الأحداث.

أنباء عن اشتباكات عنيفة أمام قسم الأربعين في السويس وحرق القسم وسقوط قتلى والأهالي يضربون عناصر الشرطة، ثم تبدأ بعض الصور للمواجهات بين الأمن والمتظاهرين وأولها وأهمها هذه الصورة العبقرية:

الخميس 27 يناير – الإسكندرية

هل هي ثورة فعلاً؟ هل نكون مثل تونس؟ هل يمكن أن يتحقق ذلك المستحيل؟ حرب شوارع في القاهرة، حظر تجول وقطع لشبكات المحمول في السويس، آلاف المتظاهرين في الإسكندرية، أنباء عن سقوط 8 شهداء، الحديث عن الدعوة لـ”يوم الغضب” بالتظاهر بعد صلاة الجمعة من كل مساجد مصر، الإعلام الرسمي مازال بعيداً عن الواقع، مفتي الجمهورية يفتي في التلفزيون الرسمي بجواز صلاة الجمعة في البيت، الأمور هنا أهدأ كثيراً من اليومين السابقين، يبدوا أنها هدنة استعداداً ليوم حاسم.

الجمعة 28 يناير – جمعة الغضب

أمجد أيام الثورة وأهم أيام حياتي، هو يوم الثورة المصرية الحقيقي، حتى ماقبل الجمعة كانت “ثورة الفيس بوك” أما يوم الجمعة فقد كانت ثورة الشعب المصري.

في الصباح الباكر أوصلت زوجتي وأولادي إلى مسجد القائد إبراهيم للحاق بأتوبيس رحلتهم إلى مكان خارج الإسكندرية، رفضت فكرة الخروج في هذا اليوم ولكن إلحاح الأطفال جعلني أوافق، في الطريق كنا نحاول الاتصال بمن في الأتوبيس لانتظارنا ولكن الشبكة لا تعمل بكفاءة، أوصلتهم ولاحظت حشوداً كبيرة من عربات الأمن المركزي وعدد ضخم من الجنود والضباط موجودين منذ الصباح الباكر فيما يبدو للسيطرة على أي مظاهرات تخرج بعد صلاة الجمعة.

عدت للمنزل وعاودت النوم لساعتين ثم استيقظت فوجدت تليفوني المحمول لا يلتقط أي شبكة، الإنترنت مقطوع بالكامل ولكن ليس لعيب فني، كان واضحاً أن الإنترنت مقطوع عن الشركة نفسها أي أنه مقطوع بقرار من جهة عليا، اقترب موعد الصلاة، كنت قد قررت الصلاة في المسجد المجاور الذي يسيطر عليه شباب سلفيين لا يؤيدون المظاهرات أصلاً ثم أعود لمتابعة الوضع من التلفزيون لأنني “مش بتاع مظاهرات”، ولكن استفزني قطع كل سبل الاتصال، عملي يعتمد تماماً على الإنترنت وبالتالي أنا ممنوع من العمل، أسرتي خارج المدينة وأنا ممنوع من الاتصال بهم، قناة الجزيرة مباشر التي كنت أتابع منها الأحداث يبدو أنها تتعرض لتشويش متعمد وبالتالي أنا ممنوع من متابعة ما يحدث، لم يترك لي النظام الغبي مصدراً آخر للمعلومات غير الشارع، حسناً سأنزل إذاً إلى الشارع !

توجهت لصلاة الجمعة في المسجد الكبير المطل على ميدان “علي بن أبي طالب” في سموحة وهو مسجد تابع للأوقاف ولم أكن أصلي فيه كثيراً لعدم اقتناعي بالشيخ الذي يخطب فيه، ولكنه البديل الأفضل الآن لكي أكون وسط أكبر تجمع من الناس، العدد متوسط وأقل من كل جمعة، الخطبة تبدأ بكلام عام ثم يبدأ الشيخ في الحديث عن عدم جواز التخريب والإضرار بالوطن فيخرج أحد المصلين أسمع صوته ولكن لا أراه ويقول بصوت جهوري: “اتقي الله يا عم الشيخ“!!! وكانت المرة الأولى في حياتي التي أسمع فيها أحد المصلين يقاطع خطبة الجمعة، لم يتأثر الخطيب بالمقاطعة وأكمل في هدوء ولكنه تحول إلى تأكيد أن على “ولاة الأمور” الاستماع إلى مطالب الناس وحلها، الخطبة لم تكن سيئة والخطيب كان متوازناً ويمسك العصا من المنتصف، لا تعرف هل يريدنا أن نتظاهر أم لا.

انتهت الصلاة وانتظرت أن يبدأ أحد بالهتاف، كل مصلي ينظر إلى الآخر أو ينظر في الأرض، لا أحد يريد أن يبدأ !!! مشيت إلى الميدان لأرى أيء هناك فلم أجد شيئاً، فكرت أن أسير في شارع “فوزي معاذ” في اتجاه ميدان “فيكتور عمانويل” ربما أجد مظاهرة قادمة من “جامع حاتم” الشهير بأغلبيته الإخوانية والسلفية (سمعت بعد ذلك بأيام من أصدقاء لي كانوا في جامع حاتم أن الوضع كان مثل الجامع الذي صليت فيه حتى هتف فجأة شاب ملتحي: “يسقط يسقط حسني مبارك” فهتف معه الكثيرون ثم بدأت المظاهرة، شكراً أيها الشاب الملتحي لأنك منحتني شرف المشاركة في الثورة)، مشيت إلى منتصف الشارع ثم بدأت أسمع الهتاف، إحساس لا أعرف وصفه، هذا ما كنت أنتظره، الهتاف يأتي من بعيد والأعداد تبدو من بعيد قليلة.

واحد .. اتنين .. الشعب المصري فين .. واحد .. اتنين .. الشعب المصري فين“، الناس يخرجون من الشبابيك والبلكونات في شارع فوزي معاذ أحد أغلى شوارع المدينة ويحيون المتظاهرين ويلوحون بأعلام مصر، المتظاهرون يهتفون لهم: “إنزل إنزل .. إنزل يا مصري .. إنزل يا مصري“، كثير من الشباب ينضم للمظاهرة، أنضم معهم ونسير إلى ميدان “علي بن أبي طالب” ثم يميناً إلى شارع “ألبرت الأول” ويستمر الهتاف ويستمر السكان في التلويح بالأعلام ويستمر الشباب والرجال والبنات والسيدات في الانضمام ويزيد العدد بشكل ملحوظ ويعلو صوت الهتافات.

الشعب .. يريد .. إسقاط النظام“، نعم إنها الثورة !!!

تعبر الحشود نفق السكة الحديد وتخرج من سموحة إلى “شارع أبوقير” في كليوباترا وتسير في اتجاه “سيدي جابر”، عند هذه اللحظة يتجمع بعض الشباب يبدو أنهم أصدقاء، يسلمون على بعضهم ثم يقول واحد منهم: “ها .. جاهزين؟”، رد أحدهم: “أيوه”، قال: “عارفين هتعملوا إيه؟”، شدني الحديث والجدية التي يتكلمون بها فتابعتهم، قال: “لو رموا قنابل مسيلة للدموع تغسل وشك بكوكاكولا عشان عينيك، وتلبس الكمامة اللي فيها خل عشان تعرف تتنفس، ولو ضربوا رصاص مطاطي ..” لم أكمل الحديث ولم أشعر بالخوف عكس المتوقع والطبيعي، فأنا بطبعي لست مناضلاً، بالإضافة إلى أن “عندي عيال عايز اربيهم”، ولكن أحسست بثقة وإيمان عميق، كل من نزل إلى الشارع في ذلك اليوم كان “مشروع شهيد”، فالشهداء لم يهبطوا من السماء وليسوا كائنات فضائية، ربما كان من يسير إلى جواري أحد الشهداء، ربما أحد من يظهرون في هذه الفيديوهات استشهد بعد ذلك، إنها الثورة فعلاً.

بدأنا السير في “شارع أبوقير” الذي كان خالياً تقريباً من السيارات وبدأت الأعداد في التزايد بانضمام الناس من الشوارع الجانبية، لم أكن مستعدًا فليست معي كاميرا – فقط كاميرا الموبايل – وأرتدي “الشبشب” الذي أنزل به عادة إلى صلاة الجمعة وهو بالطبع غير مريح في المشي لمسافات طويلة، قررت أن أسير مع الجموع عبر “شارع أبوقير” الممتد بمحاذاة خط ترام الرمل ثم عندما أشعر بالتعب أتركهم واستقل الترام عائداً، كان الترام هو الحل الأمثل للعودة لأن الشارع كان مغلقاً تماماً بالمتظاهرين، واستمرت الهتافات:

“مصر يا أم .. ولاد أهم .. دول علشانك شالوا الهم .. دول يفدوكي بالروح والدم”

“حسني مبارك .. باطل .. جمال مبارك .. باطل .. حبيب العادلي .. باطل .. أمن الدولة .. باطل .. فتحي سرور .. باطل .. مجلس شعب .. باطل .. مجلس شورى .. باطل”

“يا جمال قول لابوك .. كل الشعب بيكرهوك”

“يا سوزان قولي للبيه .. فهمت خلاص ولا إيه؟”

“ثورة ثورة حتى النصر .. ثورة في كل شوارع مصر”

“يا حرية فينك فينك .. أمن الدولة بيننا وبينك .. يا حرية فينك فينك .. حسني مبارك بيننا وبينك”

“لا لمبارك أب وإبن .. لا للفردة والاستبن”

“حسني مبارك بره بره .. مصر هتفضل دايماً حرة”

ثم بدأ يظهر شعار الثورة في الهتافات “عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية” وأحياناً “تغيير .. حرية .. عدالة اجتماعية”

والهتاف الذي كان يهزني من الأعماق:

“علَي في سور السجن وعلَي .. بكرة الثورة تشيل ما تخلَي”

استمر تجمع الحشود حتى وصلنا إلى محطة قطار سيدي جابر حيث توجد صورة كبيرة للفرعون، كان هذا هو الاختبار الأول لسلوك الجموع، اتجه كثير من الشباب نحو الصورة لتمزيقها (وكانت صورة مشابهة وبنفس الحجم قد تم تمزيقها أمام مقر الحزب الوطني في بولكلي في أحد الأيام السابقة وكسر الشباب صورة ولافتات تأييد لجمال مبارك كانت معلقة باستفزاز منذ فترة على مبنى محطة ترام الرمل)، بعض الشباب ألقى بالحجارة على الصورة فظهرت لأول مرة هتافات “سلمية .. سلمية” ومنعهم العقلاء من قذف الحجارة حفاظاً على السيارات الموجودة بالمحطة، تسلق أحد الشباب على إطار الصورة الكبيرة ومزقها وهتف الناس “الله أكبر“، وزادت ثقتي بعد أن شاهدت وصورت الحدث الذي لم يكن ليخطر ببال أحد منذ أسبوع، تمزيق صورة الفرعون جهارًا نهارًا وسط تصفيق الجمهور.

استمر السير في نفس الاتجاه واستمرت الهتافات وزادت الأعداد، وصلنا “مصطفى كامل” ثم “رشدي” ثم “بولكلي” وزاد التعاطف والمساندة من البلكونات والشبابيك وانضم بعض العاملين في المحلات والمستشفيات، الهتافات كثيرة ومتداخلة حيث كل مجموعة فيها شخص يهتف ويرد الباقون وراءه، وكلما تفرقت المجموعات يصفر الشباب لكي يتوقف من هم في المقدمة حتى يلحق بهم الباقون ونعود لنشكل كتلة بشرية واحدة، ثم جاء اختبار آخر عند وصولنا إلى مبنى “الوزارة” وهو مقر رسمي لمجلس الوزراء كان يستخدم قديمًا عندما تنتقل الوزارة في الصيف إلى الإسكندرية ولكنه لم يعد يستخدم لهذا الغرض وإن ظل تابعًا لمجلس الوزراء، هنا حاول بعض المتحمسون إلقاء الحجارة ولكن فوراً وقف عدد من الشباب وأمسكوا بأيدي بعضهم البعض مكونين “كردون” أمام مدخل المبنى وقام آخرون بالإشارة للناس بالاستمرار في السير وعلت هتافات “سلمية سلمية” مرة أخرى، ونفس الوضع عند مقر الحزب الوطني المجاور ثم الاختبار الأصعب أمام قسم شرطة الرمل أول في “فلمنج” (أحد الأقسام الأسوء سمعةً في المدينة) حيث كان باب القسم مغلقاً بجنزير حديدي ولا توجد عليه حراسة وكان على سطح مبنى القسم ثلاثة أو أربعة أشخاص بملابس مدنية بيضاء ينظرون فقط للمتظاهرين في الأسفل ولا يقومون بأي رد فعل، تكرر مشهد الكردون وهتافات “سلمية سلمية” رغم زيادة حماس وتهور بعض الناس لكن لم يتم أي اشتباك أو محاولة للاقتحام وأكمل الناس سيرهم في سلام.

أمام مدخل إحدى العمارات في منطقة “فلمنج” وقفت سيدة أجنبية ومعها على ما يبدو خادمة آسيوية وصفقت السيدة بفخر واعتزاز ولوحت بيدها للمتظاهرين أثناء مرورهم، مررنا بمنطقة “جليم” وقد تضاعفت الأعداد وبدأ سكان العمارات المطلة على الشارع – خصوصاً السيدات – يلقون للمتظاهرين بزجاجات المياه والمتظاهرون يحيونهم بهتاف “المصريين أهم ..أهم أهم أهم” واستمر السير حتى اقتربنا من منطقة “زيزينيا” حيث صفر الشباب مرة أخرى ليتوقف السير، كان الصفير هذه المرة قادم من المقدمة وكنت أنا في الوسط فلم أفهم سبب الصفير، فجأة جاءت هتافات من الأمام “إرجع إرجع إرجع”!!! ظننت في البداية أن قوات الأمن حضرت وسيبدأ الضرب، سألت من هم قادمون من الأمام فلم يعرفوا السبب، وهنا ظهرت هتافات قوية قادمة من بعيد وتقترب ناحيتنا، نفس هتافاتنا تقريباً ولكن بأعداد أكبر، ثم ظهرت من بعيد بشائر أعداد ضخمة من المتظاهرين قادمة في الاتجاه العكسي، كان عددهم أضعاف أضعاف عددنا ولذلك كان الطبيعي أن ننضم نحن إليهم ولا نسير عكس اتجاههم، كنت قد بدأت أشعر بالتعب والإرهاق من السير مسافة 5 كيلومترات حتى الآن، تذكرت أنه يمكنني أن أستقل الترام من محطة “كلية الفنون الجميلة” القريبة ولكني قررت أن أستمر مع الجموع، توقفت قليلاً لأرتاح ولأتابع سير هذه الحشود الغفيرة القادمة، سمعت من بعضهم أنهم قادمون من “العصافرة” و”ميامي” و”باكوس” و”فيكتوريا” و”سيدي بشر”، مناطق شعبية، أعدادهم لا نهاية لها، ليس لهم نهاية فعلاً

بدأت السير في نفس الطريق عائداً في الاتجاه العكسي، الأعداد الآن أضعاف الأعداد السابقة، الناس من مستوى اجتماعي أقل من أولئك الذين قدمت معهم من سموحة ورشدي وجليم ولكنهم أكثر حماساً وأعلى صوتاً، الكثير من الملتحين وكبار السن ونسبة أقل من البنات والسيدات، الطريف أن أحد الشباب كان محمولاً على الأعناق ويهتف بحماس بالغ وصوت جهوري: “أمة واحدة عربية .. ضد الهجمة الصهيونية” !!! وكان الكثيرون يردون خلفه، تكرر نفس المشهد أمام قسم الرمل ومر الأمر في سلام، نفذ شحن الموبايل ولم أعد قادراً على استكمال التصوير، مازالت الشبكة مقطوعة على أي حال.

استمر السير حتى أدركتنا صلاة العصر في منطقة “مصطفى كامل” فصلينا في الشارع في جماعات منفصلة، صليت أمام “عمارة العفاريت” الشهيرة ثم استكملت السير وحدي حيث لم يكن الجميع قد أكمل الصلاة، واصلت السير حتى سيدي جابر ثم كليوباترا حيث لم أعد أستطيع السير من التعب (10 كيلومترات سيراً الآن) فجلست قليلاً عند إشارة كليوباترا القريبة من منزلي في انتظار قدوم المظاهرة، بعض المشاه كانوا ينظمون حركة المرور في هذا التقاطع الحيوي ويمنعون السيارات من الاتجاه ناحية المظاهرة، ثم جاء “كونستابل” المرور ووقف بالموتوسيكل بعرض الشارع ليمنع سير السيارات، مرت سيدة عجوز تبدو فقيرة جداً وصاحت في اتجاه المظاهرة: “روحوا على قسم سيدي جابر، روحولهم ولاد ال**** دول”، وكنا على بعض أمتار من قسم سيدي جابر، وصلت المظاهرة أخيراً بأعدادها الضخمة ولكني كنت قد قررت العودة للمنزل لأشحن الموبايل وأحاول الاتصال بزوجتي لأطمئن عليها وعلى الأولاد وقد أنزل مرة أخرى لمواصلة التظاهر والتصوير

كثير ممن نزلوا إلى الشارع في هذا اليوم كان نزولهم للبحث عن أبناء أو بنات أو أخوات لم يعودوا للمنزل، كان في بعض كليات الجامعة امتحانات نصف العام حتى مع أنه يوم جمعة، الاتصالات مقطوعة ولا أحد يعرف مصير من لم يعد، أغبى وأسوء قرار للنظام في فترة الثورة هو قرار قطع الاتصالات لأنه جعل الآلاف ينزلون للشارع مضطرين.

أعود للمنزل، الأخبار في التلفزيون خطيرة جداً، مواجهات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين في القاهرة، صور الاعتداءات البربرية على المتظاهرين العزل بشعة جداً من قنابل مسيلة للدموع إلى ضرب العصي إلى رش بالماء ودهس بالسيارات المصفحة حتى الاعتداء على المصلين على كوبري قصر النيل في المشهد “الأيقوني” للثورة المصرية، زوجتي تتصل على تليفون المنزل منزعجة من إغلاقي للموبايل، لا تعرف حتى الآن أن الاتصالات مقطوعة في الإسكندرية لأنها خارج المدينة، أطمئن عليهم وأنبههم إلى خطورة الوضع وضرورة العودة بسرعة.

تتسارع الأحداث كما أشاهد في التلفزيون ثم يأتي المشهد الفاصل في هذا اليوم بظهور أول مدرعة للجيش المصري قادمة على كورنيش النيل وأنباء عن انسحاب قوات الأمن المركزي من الميدان، مراسل الجزيرة غير متأكد ويقول أنه سيسأل ليؤكد خبر نزول الجيش المصري إلى الشارع، مع ظهور اثنين من الجنود يدفعان المدرعة تأكدت من الخبر أولاً لأن الجنود يرتدون الزي “المموه” للجيش وثانياً لتذكري مقولة أحد أصدقائي الذي قضى فترة التجنيد وقال لي أننا لو حاربنا فإن عربات الجيش لن تدور وسنحتاج لدفعها في البداية !!! إذاً فقد نزل الجيش إلى قلب العاصمة ! لا أعرف حتى الآن هل هذه أخبار جيدة أم سيئة، أرى الناس تلوح لمدرعات الجيش وتقبل الجنود ولكني غير متفائل، أليس هذا أيضاً جيش مبارك مثلما كانت الشرطه شرطته؟

خبر عن بدأ حظر التجول منذ السادسة مساءاً في القاهرة والإسكندرية والسويس، الساعة الآن الخامسة والنصف ! ما هذا القرار؟ كيف سيعود كل هؤلاء الناس إلى منازلهم في نصف ساعة؟ ماذا عن زوجتي وأولادي؟ أين هم وكيف سيعودون؟ لا أستطيع الاتصال بهم، مازالت الشبكات مقطوعة ! لا حل سوى الانتظار حتى تتصل هي بي على التليفون الأرضي، إذاً لا أستطيع النزول إلى الشارع، أريد أن أعرف ما يحدث على الأرض، القنوات الفضائية كالعادة تركز فقط على القاهرة، وماذا عن باقي المدن؟ يبدأ الظلام وأسمع صوت طلقات رصاص، الوضع مخيف ومقلق، أخرج إلى البلكونة فلا أجد شيئاً في شارعنا الجانبي الهادئ، شارع أبوقير مواز لشارعنا من الخلف ولكني لا أراه من شقتي، رائحة بارود ودخان في الهواء، تزداد كثافة الدخان وأحس باختناق بسيط وعيني تؤلمني، أدخل قليلاً لأتابع الأحداث وأنباء عن انفلات أمني واحتراق أقسام شرطة في القاهرة والسويس والإسكندرية، أخرج للبلكونة ولا أستطيع البقاء لثواني قليلة، حرقان شديد في عيني لا أستطيع أن أفتحها، أعود سريعاً وأضع وجهي تحت حنفية الماء، ربما هذه هي القنابل المسيلة للدموع، أصوات طلقات رصاص كثيفة ودخان كثيف، عرفت بعد ذلك أن قسم سيدي جابر القريب من منزلي كان يحترق.

أخيراً تتصل زوجتي، يتابعون الأحداث عبر التلفزيون وهم في حالة ذهول، السائق خائف من العودة على الطريق فقرر الذهاب إلى دمنهور للعودة من طريق آخر !!! أصرخ فيها بأن حظر التجول سيبدأ وأنتم تتنقلون من كفر الدوار إلى دمنهور !!! هل تعرفين معني حظر التجول؟ لا أعرف ماذا قلت وماذا قالت ولكني كنت في حالة انهيار.

لا بديل للتلفزيون الآن، الاتصالاات مقطوعة بالكامل ولا يمكن الدخول إلى الإنترنت، أقلب في القنوات بحثاً عن أي جديد، الجزيرة – العربية – الحرة – بي بي سي – سي إن إن -،… لا أحد يعرف الآن ماذا يحدث ولكن الفوضى تعم البلاد والشرطة اختفت والجيش بدأ في الانتشار في المدن الكبرى.

تنويه عن خطاب للرئيس بعد قليل، في انتظار الخطاب الذي تأخر حتى الثانية صباحاً لا أعرف ماذا أفعل، أخيراً اتصلت زوجتي وقالت أنهم على مشارف الإسكندرية (حيث ما زالت شبكات الموبايل تعمل خارج المدن الكبرى)، كيف ستأتي من خارج المدينة إلى المنزل في سموحة؟ حسناً اذهبي إلى أقرب بيت من بيوت الأقارب أو المعارف، لا تخاطري بالدخول إلى شوارع المدينة في هذه الظروف، اقترحت بيت خالها في “محرم بك” القريبة من مدخل الإسكندرية، لا بأس، اتصلي بي من تليفون منزل خالك لحظة وصولك.

يمر الوقت بطيئاً، أخيراً تتصل، الحمد لله وصلوا إلى بيت خالها، لا يمكنها العودة للمنزل الآن، تبيت هناك إذاً وفي الصباح نرى ما يمكن فعله، حكت لي زوجتي بعد ذلك ما لم أكن أعرفه عن تفاصيل رحلتها المثيرة حتى بيت خالها، تركهم الأتوبيس عند مبنى جمعية الشبان المسلمين في الشاطبي، مذعورين مصدومين من مشهد الدبابات تجوب الشوارع لأول مرة في حياتهم وأصوات الطلقات النارية الآتية من أماكن متفرقة، شاهدوا في مدخل الإسكندرية الحرائق وعمليات السلب والنهب الجماعية غير المسبوقة خصوصًا عند كارفور وعند ما كان يسمى بـ”الحضانة” التي تحتجز فيها المحافظة المركبات المخالفة، لا وجود لأي وسيلة مواصلات، لا تاكسي لا ميكروباص لا أوتوبيس، ولا وسيلة للاتصال بأحد لينقذهم من هذا الرعب، لا ملجأ إلا مبنى جمعية الشبان المسلمين نفسه، طرقوا الباب ففتح لهم الحارس وأدخلهم مباشرة، لم يكن هناك مجال للمناقشة، انتظروا في الداخل قليلًا ليتمالكوا أعصابهم ويفكروا في وسيلة ما، لا حل إلا إيقاف أي سيارة عابرة، هي مغامرة خطيرة في ظروف استثنائية كهذه لا يمكنك أن تضمن فيها من يقود سيارة من، توقفت لهم سيارة قديمة نسبيًا يقودها رجل عجوز وهو ما طمأنهم فركبوا معه وترجوه أن يذهب بهم إلى أي مكان آمن، كان الرجل المسكين ضعيف النظر متقدم السن يجوب الشوارع المظلمة الخطرة بحثًا عن ولده الذي خرج في الصباح إلى الامتحان في كليته ولم يعد ولا يجد وصيلة للاتصال به، احتمال العثور على ولده في هذه الظروف لا يتجاوز الصفر ولكنه لا يملك خيارًا آخر، لحظات مرعبة أخرى في السيارة المتهالكة التي يقودها رجل عجوز لا يرى الطريق جيدًا ولا يعرف إلى أين هو ذاهب، بفضل الله وحده وصلوا إلى بيت الخال في محرم بك لتتصل بي أخيرًا من هناك وتنتهي هذه الليلة التاريخية.

يمكنك قراءة الجزء الثاني هنا

4550 Total Views 1 Views Today
Husseinيوميات الثورة – الجزء الأول: جمعة الغضب