يهيم نجيب محفوظ بشكل عام بفكرة وجود وجوه متعددة للحقيقة ويتميز في أسلوبه الفريد في سرد نفس الوقائع من خلال روايات مختلفة بما تحمله كل منها من ووجهة نظر ومعلومات واستنتاجات وتأويلات كل بحسب موقعه من الأحداث وبحسب طبيعة شخصيته ودوافعه وموقفه الشخصي من بقية الأطراف بحيث لا يجد القارئ نفسه أمام سرد واحد للقصة بل أمام نسخ مختلفة تتقاطع وتتشابك بل وتتضارب في بعض الوقائع مما يضع القارئ نفسه أمام اختبار عقلاني وأخلاقي ليضع هو بدوره نسخته الخاصة من القصة، يضع نجيب قارئه في موقع القاضي الذي يستمع إلى شهادات الأطراف المختلفة كما يرويها كل منهم ثم يطالبه بالحكم على مصداقية كل منهم في كل تفصيلة وبتجميع الخيوط المتداخلة للوصول إلى أقرب نسخة ممكنة من الحقيقة وهنا تتحقق الغاية الأصلية من هذا الأسلوب وهو إقرار حقيقة أنه لا توجد حقيقة مطلقة بل توجد نسخ مختلفة من الحقيقة وعلى كل شخص أن يستنتج بعقله وبتحليله المنطقي ما يعتقد أنه الأقرب للحقيقة، فعل نجيب ذلك في عدد من الروايات غير هذه مثل ميرامار وأفراح القبة تكتشف فجأة عند فراغك من قراءة هذه النوعية المرهقة عقليًا من الروايات أن نجيب قد خدعك أو استدرجك إلى شرك فلسفي محكم فهو في الحقيقة لم يسرد عليك القصة بل إنه يطالبك الآن أن تسردها أنت، أكاد أتخيله يضع خاتمة للروايات من هذا النوع يسأل فيها القارئ: والآن، ما هي نسختك أنت من القصة؟
بغض النظر عن دقة الحقائق التاريخية فقد كان اختيار موضوع الرواية عن الفرعون إخناتون الذي ما زال يثير الجدل ويلهم الأبحاث حول عقيدته غير المسبوقة وأحداث حياته، لم يكن يناسب هذا الأسلوب من السرد أفضل من قصة فلسفية حول حقيقة الإله وحول الصراع بين قوة الحب وقوة السلاح في زمن زاده شدة القدم ضبابية وأسطورية، كعادة نجيب تخرج من رواياته بأسئلة أكثر مما تخرج بأجوبة، لكنه يجيد إثارة الأسئلة في ذهنك دون أن تدرك.
العائش فى الحقيقة – نجيب محفوظ
5571 Total Views 2 Views Today