ثلاثية نجيب محفوظ

Hussein Book Reviews

انتهيت مؤخرًا من إعادة قراءة ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) التي كنت قد قرأتها قديمًا، هذه إحدى الأعمال التي يتوجب عليك إعادة قراءتها كل بضعة أعوام مع تقدمك في العمر والخبرة بالحياة ومع تغير ونضوج قناعاتك وأفكارك لتكتشف فيها خبايا جديدة ولتتكشف أمامك منها زوايا كانت في قراءتك السابقة مظلمة أو مبهمة ولتنظر إلى الشخصيات بعين مختلفة.

تظل الثلاثية دائمًا في نظري أهم نص أدبي كتب باللغة العربية بدءًا بأسماء الروايات المتفردة في تميزها ودلالاتها وانتهاءًا بذلك النسيج البديع من الشخصيات التي خلقها نجيب من قلب الواقع المصري في فترة ما بين الحربين العالميتين بكل تناقضاته وميزاته وعيوبه وطموحاته وأحلامه وإحباطاته وهزائمه وخرافاته وثقافته وحيرته، الثلاثية بشكل عام هي مرآة الحياة في مصر في تلك الحقبة الغنية بالأحداث والتفاعلات كما هي بشكل أو بآخر سيرة ذاتية لكمال أحمد عبد الجواد الذي يمثل بشكل أو بآخر أيضًا نجيب نفسه أو أبناء جيله وطبقته ومجتمعه فنجيب ولد في نفس توقيت ولادة كمال في أحداث الرواية وفي نفس الحي وعاش نفس الأحداث والتفاعلات، تمثل شخصية كمال وتطورها الفكري العمود الفقري للثلاثية عبر رواياتها الثلاث التي تنتهي به حائرًا محبطًا تائهًا كحال مصر نفسها.

لا يمكنك الخروج من الثلاثية دون الافتتان بالشخصية الأشهر، شخصية السيد أحمد عبد الجواد التي اشتهرت فيما بعد بـ”سي السيد”، لا أدري كيف خلق نجيب تلك الشخصية المبهرة في عمقها وصراعاتها وتناقضاتها وضعفها وقسوتها وازدواجيتها وعنفوانها وكم أنفق من وقت وجهد ليصل إلى هذه التركيبة التي أنتجت في رأيي أعمق وأعقد شخصية صنعها كاتب قرأت له على الإطلاق، تليها شخصيات أمينة وكمال وياسين وزنوبة، بشكل عام كان الزمن هو البطل المجهول في الثلاثية، صنع الزمن الفارق الأساسي في حياة معظم الشخصيات وفي حياة المكان نفسه الذي يمثل كذلك مصر نفسها.

من أكثر ما يبدع فيه نجيب بشكل عام رصد التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تصيب المجتمع بشكل ضمني دون تصريح مباشر ودون أن ينجرف إلى صناعة قصة تسجيلية بل تشعر بتغير الجو الاجتماعي المحيط بالأشخاص والأماكن مع تقدمك في القراءة، تكاد ترى آثار تبدل الزمن وتغير الثقافة والأعراف بين زوايا الرواية ويمكنك تمييز مناخ الأمل من مناخ الإحباط كلما تقدمت فصلًا بعد فصل.

سأعود إلى الثلاثية مرة أخرى ربما بعد عشرة أعوام إذا طال بي العمر، وأنا على يقين من أن انطباعاتي ستختلف قليلًا أو كثيرًا وأنني سأكتشف المزيد من الزوايا التي تبدو لي الآن مظلمة.

4843 Total Views 4 Views Today
Husseinثلاثية نجيب محفوظ