في رواية قصيرة على غير عادته يشخص بهاء طاهر بأسلوبه السلس سمات مجتمع الصعيد بعاداته وتقاليده وطقوسه وخرافاته وثوابته، بجذوره الضاربة في عمق الأرض والتاريخ، بشخصياته المتينة البنيان يرسم بهاء طاهر لوحة شديدة العمق أقرب للملحمة أو السيرة التي يرويها الرواة على الربابة، شخصية صفية العنيدة المثابرة اللي تنذر حياتها وحياة طفلها بالكامل لثأرها الشخصي لكرامتها من حربي كما يتضح في النهاية متوارية وراء تقاليد الثأر العتيقة، شخصية حربي المتمسك حتى النهاية بالأصول والتقاليد ومقتضيات الرجولة في ثقافة الجنوب ولو على حساب حياته، شخصية البيك الكريم ابن الأصول الذي يفقد صوابه وعقله بمجرد أن يأتي الولد، يتحول لوحش لكي يحفظ لولده ميراثه من بعده، ثقافة الجنوب مرة أخرى، شخصية الأم التقليدية الغارقة في تفاصيل التقاليد والأصول وما يصح وما لا يصح، شخصية الوالد والوجيه الصعيدي الحازم كما يجب أن تكون، شخصية الراهب الطيب المتسامح مع العالم والساعي لنشر المحبة وعلاقات أهل القرية الوثيقة برهبان الدير الذين لا ينتمون للقرية ولكن تمنحهم قدسية الدير منزلة الأهل، حتى شخصية كبير المطاريد الخارج عن القانون الذي لا يتنازل عن مبادئه وشهامته، لا يغدر بصديق ولا يعتدي على رهبان، بل ويتخلى عن سطوته ونفوذه بمنتهى التلقائية ليحرر الوطن من المعتدين، أيضًا بدافع من ثقافة الصعيد، الصعيد هو بطل الرواية، هو الدافع والحافز والرادع للجميع.
أعجبني جدًا تعبير “دول ناس ورقهم بحّر” التي أسمعها للمرة الأولى وتعني أن هؤلاء الناس ذهبت أوراقهم إلى القاهرة (يطلق الصعيديون لفظ “بحري” على كل ما هو شمال بلادهم بداية من الجيزة وحتى الإسكندرية وإن كانوا يخصون بها القاهرة بالذات أحيانًا)، ومن تذهب أوراقه إلى القاهرة في ثقافتهم فهو هالك لا محالة، فإما أن أوراقه بحّرت لحكم محكمة أو للوفاة.
“وأسأل نفسي إن كان ما زال هناك طفل يحمل الكعك إلى الدير في علبة بيضاء من الكرتون، وأسأل نفسي إن كانوا ما زالوا يهدون إلى جيرانهم ذلك البلح المسكر الصغير النوى”.