فى لحظة مبكرة من تاريخ الإسلام، رأى جماعة من الناس، سوف يسميهم الناس «الخوارج» أنهم أعرف المسلمين بالدين، وأن (لا حكم إلا لله) فقاموا بهذا المنطق الاحتسابى، بمحاسبة الناس باسم الدين. فصار مرتكب الكبيرة عندهم كافراً، وصار الأئمة مرتدين! وبحكم الردة، قتل الخوارجُ الإمامَ علىَّ بن أبى طالب، وطعنوا معاوية، وفشلوا فى قتل أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص.. ثم قتلوا من بعد ذلك كثيرين، وقتلت (الحكومة) منهم كثيرين باعتبارهم جماعة إسلامية متطرفة تنشر الإرهاب فى المجتمع. أما هم، فكانوا يرون فى أنفسهم القائمين بأمر الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.. أى أنهم المراقبون المعاقبون (المحتسبون) بمقتضى الحق الإلهى، والإيمان القويم الذى حافظوا عليه وابتعد عنه بقية المسلمين.
كان بعض المعتزلة قد استطاع إقناع الخلفاء العباسيين بأن القرآن مخلوق، وأن ذلك أصل من أصول الدين القويم، ومن يعتقد أو يفكر فى أن القرآن قديم، فهو يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، حتى وإن كان هذا الشخص لا يصرِّح بذلك .. وفى لحظةٍ فاجعةٍ من تاريخنا، مُورِسَتْ الحسبة على الأفكار والأفئدة، ودعا الخليفة المأمون بن هارون الرشيد العلماء ليمتحنهم بأن يسألهم: هل القرآن قديم، أم مخلوق حادث؟! فكان بعض العلماء والفقهاء يهرب من (المحنة) وبعضهم يتوارى عن الأعين، وبعضهم يستعمل مبدأ «التَّقيَّة» فيقول للحاكم ما يريد أن يسمعه منه، فينجو.
غير أن بعض العلماء والفقهاء، صرَّحوا بأن لهم رأياً يخالف ما يعتقده المعتزلة والخلفاء، فأصابتهم الويلات.. وكان من هؤلاء الذين ابتلاهم زمانهم بهذه المحنة وتلك الحسبة، ابن حنبل، الذى كان قد بلغ من العمر خمسا وخمسين سنة، ومن الشهرة ما لم ينله شخص آخر من معاصريه. وفى (كتاب المحن) يحكى لنا محمد بن تميم (المتوفى ٣٣٣ هجرية) مأساة الإمام أحمد، التى هى واحدة من أشهر مآسى الحسبة على الأفكار فى تاريخنا.. فيقول ما مفاده:
كان الإمام أحمد ببلدة طرسوس، فأرسل إليه المأمون كتاباً (وثيقة) فيها أن عليه الاعتراف بالإيمان بخلق القرآن، أو تقطع يداه ورجلاه. فلما قرأوا الكتاب على الإمام ابن حنبل ، قال: القرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق.
هَمَّ عسكر المأمون بتنفيذ الحكم، فثار عليهم الناس يقودهم محمد بن الطبَّاع وأخوه إسحاق. فأخذ الجند الإمام ابن حنبل وهو مقيد بالسلاسل، وذهبوا به إلى بغداد (تبعد عن طرسوس بمئات الكيلومترات) فألقوه فى الحبس، فى غرفة ضيقة جداً، وكانوا يرفضون أن ينـزعوا عنه القيود كى يؤدى صلواته، فكان يصلى بالناس فى السجن وهو مقيَّد.. ثم أرسلوا إليه فى سجنه من يدعوه للإقرار بأن القرآن مخلوق، فرفض، فزادوا عليه القيود حتى أحكموا قدمه بأربع سلاسل حتى لا يمكنه الحركة.
وظل الإمام فى حبسه حتى تولى الخلافة «المعتصم» فاستمر فى ممارسة الحسبة، وفى اختبار أفكار الناس عبر ما يعرف باسم (المحنة) .. وقد بعث الخليفة إلى الإمام ابن حنبل يهدِّده إما بالاعتراف العلنى بإيمانه بخلق القرآن، أو بقتله «فى موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر» . فرفض الإمام، فحملوه فى قيوده إلى الخليفة الذى كان قد جهَّز له ستين جلاَّداً، كى يرهبه ويغصبه على الاعتراف بالإيمان! فقال الإمام أحمد بن حنبل: الإيمان هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فقام إليه المعتصم وقال : ويحَك يا أحمد، ما تقول فى القرآن؟ قال الإمام: يا أمير المؤمنين ما أعرف هذا الكلام، إنما طلبت أمر دينى وصلاتى، وأعلِّم الناس.. أمر الخليفة الجلادين، فعلَّقوا الإمام بين السماء والأرض ، وراح كل جلاد يضربه بكل ما أوتى من قوة، وفقهاء السلطان حول الخليفة يزعقون: يا أمير المؤمنين، هو كافرٌ حلال الدم، فاضرب عنقه وذنبه فى رقبتنا.. وهنا، قال رجل من الجلادين للخليفة: يا أمير المؤمنين، إن أردتَ ضربتُه سوطين أقتله فيهما. فوافق الخليفة، فضربه الجلاد سوطين هائلين، قال المؤرخون إنهما قطعا جلد بطنه فتدلت منها أمعاؤه.
ثم ألقوا الإمام، شيخ الإسلام، على الأرض وشدُّوا على بطنه بثوب. وصاحوا «مات أحمد» فصخب الناس عليهم فى بغداد، ونقم المسلمون فى أنحاء الأرض لهذه المحنة.. فأطلق الخليفةُ الإمامَ أحمد، ليظل بعدها أكثر من عشرين سنة عليلاً، مختفياً فى بيته، مخلوع الكتفين، حتى وفاته سنة ٢٤١ هجرية.. رحمه الله، ورحمنا من بعده.
—————————————————-
ثم هاج أهل الاهتياج من قدامى المحتسبين على الأفكار والأفئدة، المختبرين لغيرهم كأنهم نواب الله، الممتحنين الناس؛ فصارت حياة البخارى فى نيسابور كالجحيم، وتزعَّم المحتسبين :الشيخ ابن حريث والإمام الذُّهلى، وندَّدا بالبخارى لأنه (خَالَفَ السُّنَّة !!) وهدَّد بعضهم بأنه لن يبقى فى بلدته، نيسابور، إذا ظل البخارى مقيماً بها، مما يعنى وجوب طرده.
وضيَّق هؤلاء الفقهاء على البخارى، حتى دفعوه للخروج إلى بلدته الأصلية (بخارى) من دون أن يودِّعه إلا شخص واحد من أهل نيسابور. وقد ظل البخارى ثلاثة أيام خارج أسوار نيسابور، يرتِّب أغراضه التى خرج بها على عجل، استعداداً للرجوع إلى موطنه الأول، بعدما كانوا قد ألصقوا به التهمة الجاهزة دوماً للانطلاق: الكُفر.. إىْ والله، الكُفر!
اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرض بما رحبت، فاقبضنى إليك.. قال الإمام البخارى هذه العبارة على مقربة من (سمرقند) التى قصدها بعد طرده من نيسابور وبخارى. وقبل وصوله إلى سمرقند، وعند موضعٍ يبعُد عن سمرقند ثلاثة أميال، كان ولا يزال اسمه: خَرْتَنْك؛ استوقف الإمام جماعة من الناس، وأخبروه بأن أهل سمرقند مختلفون فى أمره، فالبعض يرحِّب بقدومه والبعض يستنكره، وقد هاج بعضهم على بعض فلم يعد المكان مأموناً.
كان ذلك سنة ٢٥٦هـ، وقد بلغ الإمام البخارى من العمر اثنين وستين عاماً، قضى أكثرها فى مشقة الرحلة لطلب العلم، وطلب المأوى.. ولم يجد الإمام البخارى سبيلاً متاحاً، ولا موضعاً يتجه إليه؛ فقال بأسى عبارته المذكورة، وبقى بعدها أياماً محظوراً محصوراً خارج حدود سمرقند، حتى توفى ودفن هناك.
—————————————————-
تعلَّق الوزير حامد بما قاله الفقيه (أبوعمر) وأمر بكتابته فتشاغل أبوعمر بالكلام مع الحلاج، فألحَّ عليه حامد وقدَّم له الدواة، فكتب بإحلال دمه. ودعا الوزير بقية الفقهاء لتأييد الحكم، فقال له الفقيه الآخر الذى كان يشارك فى محاكمة الحلاج (أبو جعفر البهلول): لا يجب بهذا قتلٌ، إلا إذا أقرَّ الحلاج أنه يعتقده، لأن الناس قد يروون الكفر ولا يعتقدونه.. فلم يأخذ الوزير بهذه (الفتوى) وراح يجمع توقيعات الفقهاء الحاضرين على الحكم بالإعدام، والحلاج يصيح: ظهرى حمى، ودمى حرام.. فلم يلتفت إليه أحد من الحاضرين.
ثم أرسل الوزير بالتوقيعات التى جمعها إلى الخليفة العباسى (المقتدر) واستأذنه فى قتل الحلاج، وألحَّ، فأذن له الخليفة. فلما أصبح استدعى الحلاج وضربه ألف سوط، فما تأوَّه وما زاد عن ترديد «أَحَدٌ، أَحَد» فرفعوه على الصليب، وقطعوا يديه، ثم رجليه، ثم حَزُّوا رأسه بالسيف، ثم أحرقوا جثته وحملوا رماده إلى منارة المسجد وألقوه فى الهواء لتُسفيه الرياح.. كان ذلك سنة ٣٠٩ هجرية.
—————————————————-
نعود إلى ما رواه ياقوت الحموى فى (معجم الأدباء) حيث يقول إن الحنابلة حين ذهبوا يوم الجمعة إلى المسجد وسألوا الطبرى عن ابن حنبل وحديث الجلوس على العرش، قال: «أما ابن حنبل فلا يعد خلافه (فقهه) ولا رأيتُ له أصحاباً (أتباعاً) يعوَّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال .. فلما سمع منه الحنابلة ذلك، وثبوا ورموه بمحابرهم (دواة الحبر) وكانت ألوفاً ، فقام الطبرى بنفسه (هرب) ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، فذهب صاحب الشرطة ومنع عن الطبرى العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل، وأمر برفع الحجارة..»
ويخبرنا المؤرخون أن مأساة الطبرى مع الحنابلة، لم تقف عند هذا فى حياة الطبرى وعند وفاته.. قال ابن عساكر فى (تاريخ دمشق) والبغدادى فى (تاريخ بغداد) والذهبى فى (سير أعلام النبلاء) إن الطبرى احتجب فى بيته، ولم يكن مسموحاً لأحد أن يزوره! وبحسب العبارة التراثية التى وردت فى المصادر السابق ذكرها: كان الطبرى لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه.
ويروى ابن كثير فى كتابه (البداية والنهاية) أن الطبرى حين مات، دُفن فى بيته؛ لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم، منعوا من دفنه نهاراً .. وهكذا انتصر الإرهاب والتطرف على عالم جليل، عانى فى حياته وعند وفاته .
وإذا تأملنا محنة الطبرى، وتعرَّفنا إلى المزيد من تفاصيلها، سوف تظهر لنا حقائق مهمة، من مثل: كان الخلاف، أصلاً، وخصومة الرأى؛ بين الطبرى و»ابن أبى داود», الذى كان زعيم الحنابلة.. ومن مثل: أن «ابن أبى داود» تصعَّد بالخلاف مع الطبرى، بأن استعدى عليه السلطان وشنَّع عليه بتهمة التشيُّع .. ومن مثل: لم يفعل «ابن أبى داود» فعلاً عنيفاً تجاه الطبرى، وإنما أطلق شرارة أتباعه وشرور العوام، فبقى هو كما لو كان بريئاً مما لحق بالطبرى .
إذن.. هو (أسلوب) واحد، قديم وجديد فى الآن ذاته. فهذا «الشخص» يختلف فى الرأى مع مفكر أو أديب أو مجتهد فى أمور الدين، فيزعق بأنه كافر أو هرطوقى أو شيعى أو شيوعى أو أى شىء مكروه، فيسمع العوام زعيقه وينساقون وراءه فيفتكون بالضحية، بينما «الجانى» الذى يلبس مسوح «البراءة» و«الدفاع عن العقيدة» و «إعلاء كلمة الرب» و «الدفاع عن الإيمان» يظل متوارياً، يهمس ضد مخالفه فى أُذن الأتباع والشعب والحكومة والسلطان والأمن العام، ويبعث برسائله السوداء، حتى تقع المأساة التى سوف يسميها بعد وقوع الويلات: الجزاءَ العادل من السماء .. نُصرةَ الربِّ للمظلومين .. العدالةَ الإلهية.. انتصارَ الحق فى النهاية !!!