من كتاب ”سر المعبد“ للأستاذ ثروت الخرباوي:
أخذ الأستاذ نفساً عميقاً ثم قال بهدوء: الإسلام السياسي والإسلام الاجتماعي والإسلام التعبدي والإسلام الاقتصادي، هذه تقسيمات غريبة ومريبة وليست من الإسلام في شيئ، فالإسلام شيئ واحد لا ينقسم ولا يتجزأ، اسمع مني يا ابني الحبيب، كلمة “إسلامي” ومشتقاتها من الكلمات الدخيلة علينا، وهي من تلبيس إبليس الذي أراد أن يحول ديننا السهل البسيط الذي يتجه فيه العبد إلى ربه مباشرة دون وسيط، إلى دين كهنوتي معقد، فيه طبقة تسمى “طبقة الإسلاميين” وهي شبيهة بطبقة “الكهنة”، وطبقة أخرى اسمها “طبقة العلماء”، فيحذرونك من التعرض لطبقة الإسلاميين لأنهم يمثلون الإسلام!! وبالتالي فهم مثل السفراء ومثل السفارة، فأنت إذا قمت بالاعتداء على سفير دولة أجنبية في بلدك، أو تعديت على أرض السفارة فكأنك اعتديت على الدولة الأخرى نفسها، وكذلك إذا انتقدت “الإسلاميين” فكأنما تكون قد انتقدت الإسلام نفسه، ويحذرونك أيضاً من التعرض لطبقة العلماء بالنقد، ويلقون في وجهك عبارة مرعبة هي “احذر يا أخي فإن لحوم العلماء مسمومة”، فيظن العامة أن هذه العبارة حديث وما هي بحديث، وإنما هي مقولة قالها عالم من العلماء هو الحافظ ابن عساكر، وكان ابن عساكر “الشافعي المذهب” قد نشبت بينه وبين الحنابلة خلافات فقهية فوجهوا إليه سهام نقدهم فأراد أن يضرب على أيديهم ويمنعهم من نقده، فقال لهم هذه العبارة، والغريب يا ثروت أن الحنابلة الآن هم الذين يستخدمون هذه العبارة!! وبها أصبحوا طبقة من الكهنة من أصحاب القداسة، وهم الذين يملكون فهم الإسلام، إذ ليس لك أن تفهمه وحدك دون “مناولة” من العالم، ليس لك أن تفهمه كما فهمه البدوي البسيط الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “قل آمنت بالله ثم استقم”.
نحن نسجد لله في أي مكان، كل الأرض مسجد لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا”، فإذا بنا نتفنن في إقامة المساجد بزخرفتها وعمدانها وطنافسها وقبابها الشاهقة التي تقترب من النسق الروماني ومآذنها المرتفعة، وقلنا على تصورنا الإنساني هذا: هذه هي العمارة الإسلامية!! لماذا يتحول نمط معماري جادت به قريحة أحد البشر – وقد يكون غير مسلم – إلى عمارة تنال شرفاً وقدراً وقيمةً من كلمة “إسلامية” التي تلتصق بها؟! هذه هي عمارة المسلمين لا الإسلام، جرب مرة أن تكتب مقالا تقول فيه: “إن العمارة الإسلامية عمارة فاسدة الذوق والمعنى، أو إنها عمارة متخلفة” ثم انتظر كم التكفير الذي سينالك، مع أنك عندما ستنتقد أو سترفض ستنتقد فكراً إنسانياً لا ديناً إسلامياً، وإذا زاد سخطك على استبداد مارسه حكامنا على مدار قرون اكتب “إن التاريخ الإسلامي سيئ” وانتظر يا ثروت جحافل التكفير، مع أنك تنتقد أو تهاجم تاريخ المسلمين لا الإسلام، تاريخ الإسلام انتهى كما قلت لك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهلم جرا، لا يمكن أن تقترب من بعض الأقانيم التي قدسها المسلمون لأن اسمها ارتبط بكلمة “إسلام”، وبذلك وضع إبليس على ألسنتنا هذه العبارة لتتحول إلى صك قداسة لا تستطيع بسببه توجيه أي نقد لشيخ الإسلام أو حجة الإسلام أو عالم الإسلام أو برهان الإسلام، ثم إذا مارست نقداً للحركة التي نسميها “إسلامية”، فهنا سيستقر في ضمير المنتمين لهذه الحركة أنك ضد الإسلام، ألست تنتقد جماعة “إسلامية”؟ إذن فأنت عدو للإسلام أو كاره للإسلام.
قلت له: كلام له قيمته يا أستاذ، ولكن كيف دخل هذا المصطلح إلى حياتنا؟
سكت برهة وكأنه يستجمع أفكاره ثم نظر إلي قائلاً وهو يرفع الكتاب الذي بيده: هذا اللفظ يا بني لم يرد لا في القرآن ولا في الحديث الشريف، الألفاظ التي جاءت في القرآن هي “مسلم، مسلمة، مسلمون” لكن إسلامي أو إسلامية لا وجود لها في القرآن، وقد بحثت في كل المعاجم القديمة عن هذه الكلمة فلم أجدها، ولكنني في إحدى المرات وأنا أبحث صادفتني هذه الكلمة “إسلامي” و”الإسلاميين”، فقد قرأتها عند أبي الحسن الأشعري وابن تيمية والجاحظ وابن خلدون، ووجدتها مستخدمة أحياناً عند علماء الكلام، وقد استخدموا هذا المصطلح من الناحية التاريخية للتفريق بين من ولدوا في عصر الإسلام الأول ولم يشهدوا الجاهلية، وبين من ولدوا وعاشوا في الجاهلية وماتوا قبل الإسلام، فالجاهليون عند علماء الكلام والفلسفة وعند من ذكرت لك أسماءهم هم من ينتسبون تاريخياً إلى العصر الجاهلي، بخلاف الإسلاميين الذين ينتسبون إلى عصر الإسلام، وفي العصر الحديث دخل علينا هذا المصطلح في القرن العشرين، ثم استشرى وتفرع وتفرعن وتقدس وتكدس حتى أصبحت هناك مدلولات نفسية لهذا المصطلح، هذه المدلولات تشير إلى أن الإسلامي هو من “يدين بالعبودية لله وحده في نظام حياته” أي في القوانين والتشريعات وكل شئ، هو الذي يؤمن بأنه لا يجوز لنا أن نشرع لأنفسنا، ففي “الظلال” يقول سيد قطب: “ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي (الكافر) تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها”، فيكون من لا يدين بالعبودية لله في نظام حياته كافرًا، وهذا الكافر بطريق الاستقراء هو “غير الإسلامي”. أرأيت أن المدلول النفسي لمصطلح “إسلامي” يقودنا شعورياً لتكفير غيرنا؟ وكذلك عندما نقول :”حزب ذو مرجعية إسلامية” أو أننا نملك “المشروع الإسلامي”، الله يا ثروت لم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام ليبشر به الناس كـ”مشروع”، هذه مصطلحات تحط من قداسة الإسلام لترفع من قدر أفكار الناس، ولذلك يجب أن تعصف الحركة التي تسمي نفسها إسلامية ذهنها، وتجدد مصطلحاتها لأن تجديد المصطلحات سيقود حتماً إلى تغيير الأفكار، وإلا كانوا كمن قال الله فيهم “وجدنا آباءنا لها عابدين”.