عادت زوجتي وأولادي إلى المنزل واكتشفت تفاصيل الليلة الرهيبة التي واجهوها، نزلت إلى الشارع لأول مرة منذ تركت المظاهرة عصر اليوم السابق، أريد أن أرى ما حدث، كل شيء مختلف، وجوه الناس مختلفة وفي نظراتهم لمعة غير معهودة، لا أحد يعرف ما سيحدث لاحقًا، الأمور تبدو ضبابية، كنا في لحظة فارقة، تجولت بالسيارة لأشاهد أقسام الشرطة المحروقة (قسم سيدي جابر وقسم باب شرق ونادي ضباط الشرطة الملاصق له ونقطة شرطة الإبراهيمية)، مزيج من رائحة الحريق والرماد والغاز المسيل للدموع يملأ الجو، عشرات من الناس يلتقطون الصور للأقسام المحروقة، كان مبنى المحافظة ما زال مشتعلًا منذ تم حرقه بالأمس لسبب غير مفهوم، ظل المبنى مشتعلًا لعدة أيام حتى انهار تمامًا.
مع بدايات اليوم نسمع أخبار تكوين ما سمي لاحقًا بـ”اللجان الشعبية” لمواجهة خطر الانفلات الأمني الناتج عن انسحاب الشرطة وحرق الأقسام وحالة الفوضى التي عمت المدن الكبرى، هرولت إلى السوبر ماركت الأكبر في سموحة لأشتري احتياجات البيت للأيام المقبلة التي لا نعرف كيف ستمضي، لا نعرف هل سيمكننا الخروج بعد ذلك أم لا وهل ستتوفر احتياجاتنا في المتاجر أصلًا أم لا، كانت رفوف السوبر ماركت فارغة تقريبًا، لا أرز لا مكرونة لا دقيق لا خبز، استطعت الحصول على بعض البقايا وبعض البيض المكسور وعدت للمنزل، في عصر نفس اليوم اتصل بي حارس العمارة ليطلب مني النزول “عشان تشوف مع رجالة العمارة هنعمل إيه”! بدت الجملة غريبة جدًا! هنعمل إيه في إيه؟!
أسفل العمارة تعرفت للمرة الأولى على الكثير من الجيران الذين لم أرهم من قبل أو الذين كانت علاقتي بهم لا تتعدى “صباح الخير” عندما نلتقي في المصعد مثلًا، كما فوجئت بالكمية المهولة من الأسلحة التي لم أتوقع وجودها مع سكان الشارع الهادئ من الطبقة المتوسطة العليا المتعلمة، أسلحة نارية متعددة الأشكال، أسلحة بيضاء، حتى العصي ومضارب البيسبول.
منذ اللحظة الأولى بدأت الإشاعات، الجميع يعرف معلومات سرية خطيرة من مصادر خاصة، الجميع له أصدقاء مقربون في المخابرات والجيش والداخلية، شخص ما خرج من مدخل عمارة مجاورة مهرولًا وصارخًا: “مبارك هرب، لسه قايلين على الجزيرة دلوقتي” (بالمناسبة اتضح لاحقًا أن هذا الشخص من جماعة الإخوان)، وكانت هذه بداية السلسلة اللانهائية من الإشاعات والتخاريف التي انهالت علينا طوال الأيام اللاحقة.
أحد الجيران الذين كنت أعرفهم مسبقًا أستاذ جامعي مرموق أخذ يسترجع معي ذكرياته عن السنوات التي عاشها في بيروت وكيف أن حمل السلاح هناك ضروري لكل شخص وأن الوضع في مصر سيصبح كذلك، قال لي أهم إحدى أهم الجمل التي سمعتها في حياتي:
“السلاح ده طالما طلع كده مش هيرجع تاني”.
دقائق قليلة وبدأ “الأكشن”، أصوات طلقات نارية متقطعة من هنا وهناك لا نعرف تحديدًا من أين تأتي، ويتم الرد عليها بطلقات مماثلة من جانبنا ثم صرخات مذعورة من البلكونات حيث تنادي كل زوجة/أم على رجلها الواقف في الشارع ليصعد ويبتعد عن “المشاكل”، وكان الرد واحدًا في كل الحالات: “خشَي جوه”، اتضح لاحقًا أن كل الطلقات كانت من سكان آخرين يطلقون الرصاص لطمأنة أنفسهم وإخافة عدو وهمي يتخيلونه، ولم ينقطع سيل الإشاعات و”الإفتاءات”، كانت غالبية سكان الشارع ضد الثورة خصوصًا بعد قرارات الرئيس بإقالة الوزارة وتعيين اللواء عمر سليمان نائبًا لرئيس الجمهورية والفريق أحمد شفيق رئيسًا للحكومة، كان ملخص رأي الجيران “مش ده اللي كنا عايزينه من زمان؟ أهو الراجل عمله”!
ثم جاءت الدبابة! سمعنا صوتها وأدركنا أنها قادمة قبل أن تصل بكثير، صوتها كان واضحًا في هدوء الليل، جاءت الدبابة وتوقفت في بداية شارعنا، استقبلناها بالتهليل واطمأننا بشكل كبير واستطعنا أخيرًا أن نصعد لننام، ظلت الدبابة على أول شارعنا ليومين تقريبًا.
استمر الوضع على ما هو عليه في الأيام اللاحقة، كان الإنترنت ما زال مقطوعًا والحياة شبه متوقفة، نقضي الصباح ما بين التلفزيون والصحف بحثًا عن أي جديد (يمكنك مشاهدة أرشيف لمانشيتات جريدة الأهرام في أيام الثورة هنا) وبين الوقوف لبعض الوقت في اللجان الشعبية التي لم يكن لها أي دور في الصباح، ثم أنزل للحاق بالمسيرات التي كانت تنطلق يوميًا من مسجد القائد إبراهيم قرب محطة الرمل وتقطع شارع بورسعيد بالكامل حتى نهايته أمام المنطقة الشمالية العسكرية ثم تنتهي عند محطة قطار سيدي جابر (يمكنك مشاهدة صور من هذه المسيرات هنا)، ثم أعود للحاق باللجان الشعبية المسائية التي تحولت مع الوقت لجلسة سمر حيث أحضرنا جهاز تلفزيون وتناوبت الأسر في إرسال المأكولات والشاي والحلويات للأبطال الرابضين على الجبهة أسفل العمارة يتبادلون النكات ويلعبون الكرة ويشربون الشاي حتى مطلع الفجر، تحول الوضع إلى ما يشبه الكرنفال الاحتفالي، الأطفال يلعبون بالسكوتر والكرة، الكبار يتبادلون الحكايات ويتعرفون على مجالات عمل بعضهم البعض، الشباب يشاهدون مقاطع الأغاني والأهداف على الموبايل، ثم يصعد الجميع للنوم ويبقى الشباب لتكملة السهرة والتدخين في غيبة الكبار
بدأ التذمر يظهر واضحًا من “وقف الحال” وانعدام الأمان، كنا ما نزال تحت تأثير الإشاعات التي لا نعرف مصدرها ولكنها استمرت في الظهور والتجدد، في إحدى الليالي بلغ الهزل أقصاه عندما أيقظنا الشباب المرابطين في “الوردية” الليلية قرب الفجر بالطرق الشديد على الحواجز الحديدية (وهي إشارة التنبيه المتعارف عليها للخطر) وقبل أن نرتدي ما يمكن أن ننزل به إلى الشارع في هذا البرد سمعنا صوت ميكروفون المسجد المجاور وشخص ما يصرخ منه طالبًا منا النزول سريعًا لحماية الشارع لأن “المساجين هربوا من سجن الحضرة وخطفوا قطار وجايين بيه علينا”!!!! هكذا قال
كان الأمر قد وصل لدرجة من السخف والعبث لا يمكن تصوره، لم يكن ممكنًا أن يستمر هذا الوضع، مع مرور الوقت انحسرت المشاركة في اللجان الشعبية وأصبحت رمزية حتى اختفت تمامًا