لنفترض جدلًا أنك سافرت عبر الزمن ورجعت 600 أو 700 عامًا (عصر المماليك مثلًا) ثم أردت أن تحكي لأهل ذلك العصر عن حياتنا الآن وما فيها، إن أردت أن تصف لهم الطائرة مثلًا، لن يستطيع القوم بالطبع إدراك ما تعنيه، فستضطر إلى اللجوء للتشبيه المخل بالمعنى فتقرّب لهم ما تعنيه بشيء يعرفونه فتقول – مثلًا – أنها طائر ضخم يمكن للبشر الركوب عليه للسفر بين البلدان، فماذا لو تطرقت إلى تفاصيل رحلة الطائرة وكيف أن لها محركات ضخمة (محركات؟) وأنك تجلس بداخلها وتطير بك إلى كندا مثلًا (أين تقع هذه البلاد؟) وتتسلى خلال الرحلة بمشاهدة الأفلام (ماذا يعني ذلك؟) وقد تتصفح الإنترنت وتراجع بريدك الإلكتروني (ما هذه الأشياء؟)!
ستضطر عند كل جملة أن تتوقف لتبحث عن تشبيهات من بيئة القوم عسى أن يدركوا من خلالها أو يقتربوا من إدراك ما تتحدث عنه، وستضطر لتبسيط أمور شديدة التعقيد لدرجة شديدة السذاجة تخلّ بمعناها (كيف بالله عليك تشرح للمماليك ما هو الإنترنت؟).
كذلك – على ما أظن – فعل الله سبحانه وتعالى معنا نحن البشر حين أراد أن يصف لنا الغيبيات التي تتعدى حدود مداركنا، كمفاهيم مثل الجنة والنار والقيامة والصراط وكل ما لا نعرف له مثيلًا في دنيانا، يستوي في ذلك أعراب الحجاز في زمن نزول الوحي وعلماء الفيزياء النووية اليوم وحتى قيام الساعة، تتخطى هذه المفاهيم مداركنا البشرية وتتلخص في القول الجامع المانع “ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر”، فكما لا يستطيع من في عصر المماليك إدراك ماهية الكهرباء أو الإنترنت، لا يستطيع الإنسان إدراك ما عند الله في الغيب.
لذلك لا أتصور أن يفهم الناس على سبيل المثال قول الله تعالى “مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى” على أن في الجنة عسل ولبن وخمر وماء كالتي في الدنيا – وإن كانت عالية الجودة – تجري في أنهار! الآية بالنسبة لي واضحة وضوح الشمس، يقول الله تعالى “مَثَل الجنّة”، ليست الجنة نفسها بل مَثَلها، هذا مجرد تشبيه وليس وصف الجنة بالفعل، يريد الله أن يصف لك ما في الجنة بتشبيهه بما تعرف أنت لا بوصفه الفعلي الذي لن تستطيع إدراكه! هل تستطيع أن تصف لرجل من أيام المماليك كيف نستطيع اليوم شراء ألعاب الإكس بوكس عبر الإنترنت؟
من هنا إذا لا ينبغي أن نتعامل مع القرآن الكريم والحديث النيوي حرفيًا لأن غالبية ما أنزل الله هو من قبيل المجاز بغرض توصيل الحكمة الإلهية المرادة أو الترغيب أو الترهيب، انظر مثلًا إلى مقدار “اليوم” في القرآن الكريم، ففي آية “وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ” وفي آية أخرى “تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ”، إذا تعاملت مع الأرقام الواردة هنا حرفيًا تقع في إشكالية تضطر معها إلى قبول تفسيرات “تلفيقية” تزخر بها كتب التراث ولا تليق بجلال الله سبحانه وتعالى وكلماته المقدسة، أما إذا تعاملت معها على أنها “مجاز” فيمكنك أن تدرك المعنى الذي وراء السياق، ينطبق الأمر نفسه مثلًا على الآية التي نحفظها جميعًا منذ الصغر “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” والتي طالما اجتهد خطيب الجمعة في قسمتها بالآلة الحاسبة وانتهى إلى الاستنتاج الرياضي بأنها تعادل ثلاث وثمانين سنةً وثُلث السنة، مع أنني لا أفهم الآية إلا بمعنى أن في ليلة القدر خير عظيم لا يعلم قدره إلا المولى عز وجل وربما يتجاوز الألف شهر المتعارف عليها في الدنيا ويختلف قطعًا من شخص لشخص حسب اجتهاده وإخلاصه وإيمانه بالله.
ليس التعامل مع كلمات الله سبحانه وتعالى إذًا بالآلة الحاسبة، ولا حساب الحسنات والسيئات بكشف الإيرادات والمصروفات، هذا أسلوب يليق بالتعامل مع السوبر ماركت يا صديقي وليس مع الخالق عز وجل، هذا تعاملنا نحن البشر المثقلون بالأطماع والأعباء الدنيوية مع بعضنا البعض ولا يليق بالتعامل مع الرحمن الرحيم الودود الرؤوف الحليم الكريم الذي كتب على نفسه الرحمة، هل تدرك قيمة هذا التعبير القرآني البديع؟ لم يكتفِ ربنا بالوعد بالرحمة أو العهد بها – ومن أوفى بعهده من الله – بل كتبها على نفسه، صارت الرحمة فرضًا على الله عز وجل يلتزم بها، سيرحم الله عباده، لا لأنهم يستحقون ولكن لأنه كتب على نفسه الرحمة.
مما يُنسب للإمام علي وفي مصادر أخرى يُنسب للإمام الحسين رضي الله عنهما: “إن قومًا عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار”، ويقول الإمام علي أيضًا: “إلهي ما عبدتك خوفًا من عقابك ولا طمعًا في ثوابك ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك”.
دعونا إذا لا نتعامل مع الله بطريقة التجار، لا تخضع العلاقة بين العبد وربه لحسابات الورقة والقلم ولا لنظريات المحاسبة التجارية وإلا وقعنا في مأزق كبير أظن أنه يمس صلب العقيدة ولأصبح منطقيًا ما قالته الراقصة الشهيرة منذ سنوات بأنها تفعل الكثير من الخير وتتصدق بمال وفير لكي تغطي على ما تقترفه من ذنوب تستمر في فعلها اعتمادًا على فهمها بهذا المنطق لآية “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ”، وبنفس المنطق يذهب تجار المخدرات للحج سنويًا لكي يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم فيكملوا تجارتهم حتى موعد الحج القادم، هذا ما يحدث عندما تتعامل مع الله بالآلة الحاسبة فينتهي بك الأمر إلى تصوّر أن الخالق سبحانه وتعالى يمكن رشوته ببعض الحسنات تغطي بها على سيئاتك وتصبح الصفقة – بمفهوم السوق – رابحة!
لم أستسغ أبدًا كيف يفهم الناس الأحاديث النبوية التي تتحدث (إن صحّت) عن أن ثواب قراءة سورة كذا هو قدر كذا من الحسنات، ولم أحسب أبدًا على الآلة الحاسبة حصيلة ما قرأته من القرآن من الثواب بحساب الحرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها وهكذا، لطالما فهمت تفسير ذلك على أن “فضل القرآن عظيم” وحسب.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاتب من يرفعون أصواتهم بالدعاء قائلًا: “إربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم”، أفلا نقول لمن ينشغل بإحصاء الحسنات إنكم لا تعبدون تاجرًا ولكن تعبدون “الكريم”؟ ألم يقل الله عز وجل في الحديث القدسي “إذا تقرب العبد إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة”؟، ألم يقل عما يحدث إذا أحب عبدًا من عباده “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأُعيذنّه”؟ كيف يمكنك أن تترجم ذلك إلى أرقام تسجلها في دفترك؟ كم يساوي عندك أن يكون الله سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به؟
عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال : “قُل آمنت بالله ثم استقم”، وفي ذلك خلاصة القول وفصل الخطاب، الإيمان بالله (عقيدة التوحيد) ثم الاسنقامة في معاملتك مع الله ومع البشر، افعل ذلك ثم لا تخش شيئًا ولا تحسب حسابات ولا ترهق نفسك بتفسيرات حرفية لا نهاية لتفاصيلها ولا مخرج من دائرتها، اعبد الله بإخلاص وراقبه في السر والعلن وكن على يقين بأنه لن يضيّعك وأبشر بخير يأتيك من حيث لا تحتسب حتى وإن لم تحسبه خيرًا.
“وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ”..