كعادة مؤلفات د. يوسف زيدان تخرج من هذه الرواية بأسئلة جديدة أكثر مما تحصل على إجابات، يمكنك أن تعتبرها رواية مسلية ويمكنك أن تنطلق منها للبحث فيما وراء الرواية من أفكار حول العقائد والإيمان والفلسفة والتاريخ، عن هيباتيا وعن الإسكندرية التي كانت إحدى المدن الثلاث العظمى في العالم بجانب روما والقسطنطينية، وعن المسيحية وصراع الكنائس بين السلطة الدينية والسياسية.
فكرة طرح قضية صراع المذاهب المسيحية من خلال رواية هي فكرة مفيدة نجحت في عرض المفاهيم والأحداث المعقدة بشكل أكثر جاذبية من الدراسات الأكاديمية الأخرى للدكتور يوسف زيدان مثل كتاب “اللاهوت العربي” مثلًا والذي وإن كان أعمق وأشمل إلا أنه صعب على غير المتخصصين في التاريخ والدارسين للفلسفة.
أهم ما في الرواية في رأيي هو مرحلة الإسكندرية التي ظهرت فيها بوضوح بشاعة التعصب الديني وإقصاء الآخر المختلف في الدين إلى درجة تحريض عامة الناس من “المؤمنين الجهلاء” على الفتك بمن اتهمتهم الكنيسة بالكفر والهرطقة، ثم التفرغ لإقصاء أتباع نفس الديانة المختلفين في مسائل عقائدية واتهامهم أيضًا بالكفر والزندقة، يبدو لي المشهد مشابهًا بشكل كبير لما نراه اليوم من تكفير وإقصاء للآخر المخالف في الدين أو المذهب أو حتى في التفاصيل الفرعية.
أما أهم مشاهد الرواية كما أراها فهو عندما يحكي الراهب هيبا عن لقائه ببابا الإسكندرية كيرلس:
“سألني أول ما رآني عن عمري فاخبرته، وأخبرته أنني أتيت أصلًا للإسكندرية للتبحر في دراسة الطب، فرد عليّ بسؤال لم أفهم في البداية معناه:
– ومن هو أعظم المتبحرين في الطب؟
– يا صاحب القداسة، يقال أنه مصري قديم اسمه آمنحوتب، أو هو اليوناني الشهير أبوقراط، أم تراك يا أبت تقصد الذين جاءوا بعدهما من الأطباء الإسكندرانيين، من أمثال هيروفليوس، أو الذين درسوا بالإسكندرية من أمثال جالينوس؟
– خطأ، إجاباتك كلها خاطئة، فالذين ذكرتهم كلهم وثنيون، ولم يستطع واحد منهم أن يبرئ المجذوم والأبرص، وأن يحيي بلمسة من يده إنسانًا مات!
– عفوًا يا صاحب الغبطة ولكني لم أفهم ما تقصد إليه.
– إن يسوع المسيح أيها الراهب هو بحر الطب، فتعلم منه ومن سير القديسين والشهداء، واغترف البركات بيد تقواك وإخلاصك.
…
سكت كيرلس برهة ثم قال: لعله من المناسب أن نرسلك إلى أخميم، فالشعب هناك يجاهد في سبيل الرب بعدما تكاثر حولهم في السنوات الماضية الفارّون من هنا والمشتغلون بالعلوم التي لا نفع لها.
احترت فيما يمكن أن أرد به عليه ثم واتتني الجرأة أو الحمق فخفضت من صوتي وسألته بكل أدب:
– وماهي يا صاحب القداسة العلوم التي لا نفع لها حتى أعرفها وأحرص على الابتعاد عنها؟
– هي أيها الراهب خزعبلات المهرطقين وأوهام المشتغلين بالفلك والرياضيات والسحر، فاعرف ذلك وابتعد عنه لتقترب من سبل الرب وطرق الخلاص، إن كنت تريد تاريخًا؟ إليك التوراة وسفر الملوك .. أو تريد بلاغةً؟ إليك سفر الأنبياء .. أو تريد شعرًا؟ إليك المزامير .. وإن أردت الفلك والقانون والأخلاق فإليك قانون الرب المجيد، قم الآن أيها الراهب لتلحق بالصلاة، لعلك تحظى بنظرة عناية من المسيح الحي”.
لا أعرف إذا ما كان د. زيدان قد قصد هذا الإسقاط الواضح جدًا على واقعنا الحالي أم أنني فقط رأيته بهذا الوضوح، يبدو لي البابا هنا كأحد الشيوخ المشهورين الآن وهو يتحدث عن “شمولية الدين” وأن فيه إجابة لكل سؤال وحل لكل مشكلة وأن العلم المفيد الوحيد هو العلم الشرعي، وأرى أصدقائي من السلفيين لا يقرأون في التاريخ والأدب والسياسة إلا من كتب ألفها شيوخ لا متخصصون في هذه العلوم، ويستخرجون من النصوص المقدسة ما يظنون أنه تاريخ وعلوم تضاهي ما توصل إليه المتخصصون في هذه العلوم من خارج نطاق الدين مثل ما يعرف بالطب النبوي على سبيل المثال، في حين أن الأمر يسير بشكل واضح نحو سلطة دينية كاملة على كل مجالات الحياة مثلما كان في الإسكندرية القديمة لدرجة إعلان أحد الشيوخ مؤخرًا أنه “رجل دين محترف”! إنهم يخلقون للإسلام كهنوتًا ليس فيه ويكررون تجربة الإسكندرية الدموية المريرة.