عن صورة منير المرسومة بالفحم.. عن العمارة وسنينها

Hussein Architecture, Articles

مقدمة لابد منها:

174Image59900وانا صغير كنت كل ما أعدي قدام المبنى العريق بتاع كلية الهندسة أقول “دي كليتي”، وقتها مكنتش عارف بالضبط يعني إيه هندسة بس المبنى له هيبة كده تديك إحساس انه أكيد الناس اللي جوه دي بتعمل حاجة مهمة، بس مكانش هدفي اني أكون معماري، حتى مخدتش قدرات عمارة في ثانوية عامة، كنت بشوف نفسي أكتر في حاجة لها علاقة بالاختراعات والتكنولوجيا، ومرت السنين ودخلت هندسة اسكندرية فعلا في 1993، أول سنة (السنة الإعدادية) في كليات الهندسة عمومًا هي أصعب سنة لإن النقلة كبيرة جدًا بين الدراسة في المدارس والدراسة الجامعية خصوصًا في الكليات العملية، بس هي كمان أهم سنة لإنها السنة اللي الطالب بيكمل فيها اللي ناقصه من العلوم الأساسية (فيزياء – تفاضل وتكامل – ميكانيكا – جبر – إحصاء – كيمياء – …) عشان يبقى مؤهل لدراسة الهندسة، وهي السنة اللي بيتعرف فيها على الـ10 أقسام المختلفة عشان يختار منها التخصص اللي هيكمل فيه (هو مش بيختار أوي يعني لإن فيه تنسيق حسب مجموعه في السنة الإعدادية)، ودي في حد ذاتها مهمة صعبة جدًا بالنسبة لمراهق لسه خارج من المدرسة ومايعرفش حاجة في الدنيا ومطلوب منه يختار بين تخصصات معقدة ومش مفهومة بالنسبة له، في البداية مثلًا كنت عايز ادخل قسم كمبيوتر بس عرفت انه بياخد 30 طالب بس من 1200 اللي هو عدد الدفعة فمش هضحك على نفسي يعني، بعد كده انبهرت بقسم هندسة الإنتاج، تصميم مكن بقى وتعرف كل حاجة بتتصنع ازاي، مجال فيه تشغيل مخ وابتكار بس دكاترة القسم كانوا رخمين جدًا، المهم قعدت فترة متشتت من كهرباء لميكانيكا لبحرية لنووية (آه عندنا قسم هندسة نووية من زمان وهو الوحيد في جامعات مصر)، كان ممكن ادخل أي قسم من دول، مفيش قسم فيهم مميز عن الباقي.

بداية الحكاية:

في مرة طلعت رحلة للقاهرة مع الكلية وفيها اتعرفت على طلبة من دفعات أكبر ومن أقسام مختلفة، كلنا كطلبة إعدادي كنا بنسأل الطلبة الأكبر عن الأقسام اللي هما فيها عشان نعرف نقرر، طالب كان وقتها في تانية عمارة قاللي أنا مش هحكيلك حاجة، بكرة تعالى معايا واتفرج بنفسك، أنا مكانش في حساباتي قسم عمارة أصلًا بس قلت أروح اشوف، قابلته تاني يوم وطلعت معاه لأول مرة المكان السحري المنعزل اللي واخد آخر دورين من المبنى المهيب اللي كنت بشوفه وانا صغير واقول دي كليتي (المبنى ده هو مبنى الإدارة اللي فيه مكتب العميد، القسم الوحيد اللي في المبنى ده هو قسم عمارة، بقية الأقسام في مباني تانية)، كل حاجة في القسم ده مختلفة عن باقي الكلية، الناس شكلها مختلف، الهوا فوق مختلف، ارتفاع السقف عالي جدًا والشبابيك طويلة، دخلنا صالة رسم كبيرة بس مش زي صالات الرسم الكئيبة اللي عندنا في إعدادي، لأ دي فيها ناس مشغلة مزيكا وناس نايمة على ترابيزات الرسم وولاد وبنات فارشين ع الأرض وبياكلوا أكل بيتي من حلة صغيرة، كان فيها ألوان في كل حتة، ألوان على اللوحات وألوان على الحيطان وحاجة كده ملهاش أي علاقة بالكلية الكئيبة الرخمة اللي انا متعود عليها.

الرسمة اللي غيرت حياتي:

mounir1المهم اتفرجت شوية على الصالة دي وعلى الكائنات العجيبة اللي فيها وبعدين مشيت معاه ودخلنا أوضة أصغر كتير من الصالة معرفش كانت بتاعة إيه بس كانت مليانة كراكيب ولوحات قديمة، مافهمتش هو جايبني هنا ليه إلا لما شاور لي على الحيطة اللي جنب الباب، بصيت لقيت رسمة لوش محمد منير مرسومة بالفحم بمساحة نص الحيطة تقريبًا بطريقة تجريدية تشبه شوية الصورة المرفقة هنا بس أجمل بكتير، كانت حاجة ساحرة معرفش اترسمت ازاي بالدقة دي على المساحة الكبيرة دي، خطوطها بسيطة بس قوية، اللي رسمها فنان حقيقي، سألته مين اللي راسمها قالي معرفش هي موجودة من قبل احنا ما ندخل القسم، الرسمة دي حسمت القرار عندي تمامًا، خلاص انا عرفت القسم اللي يناسبني، أنا هدخل عمارة.

سألته انتوا دفعتكم كام واحد قاللي 55، قلتله بس كده هيبقى صعب أوي أكيد القسم بياخد تقدير عالي، قالي لأ احنا خارج التنسيق عشان في اختبار قدرات بتاخد فيه درجة تتجمع على تقديرك في إعدادي ويختاروا أعلى 55 واحد من اللي اتقدموا للاختبار، وبما إني مكنتش متوقع تقدير عالي (ولا متوسط حتى) فكان لازم اجيب درجة عالية جدا في اختبار القدرات عشان تعوض التقدير التعبان واقدر ادخل القسم، ده كان هدف حياتي في المرحلة دي (الفترة دي بالمناسبة منير عمل فيها أغنية “لو بطلنا نحلم نموت” في وقتها المناسب بالضبط)، ودي برضه من الفترات اللي ربنا وقف معايا فيها بشكل أقرب للمعجزة، في الظروف الطبيعية مكانش ممكن ادخل القسم ده، الامتحان كان فيه جزء رسم وجزء أسئلة نظرية ومقابلة شخصية، وحصلت المعجزة الحمد لله وبدأت علاقتي بالعالم المسحور اللي اسمه العمارة.

إيه هي العمارة؟

العمارة مهنة ملتبسة وغامضة بالنسبة لمعظم الناس، هي حالة خاصة بين المهن، صعب تصنيفها، هي فن حسب تصنيف الإغريق القدماء للفنون (الشعر – الموسيقى – المسرح – العمارة – النحت – الرقص) لكن هي كمان مش فن أوي لإنها بتفتقد لأهم خصائص الفن وهو حرية التجريب، النحات يقدر يجرب فكرة في دماغه ولو فشلت يركنها أو يكسرها، الرسام يقدر يرسم لوحة غير مألوفة لمجرد التجربة، لكن المعماري معندوش رفاهية انه يكسر مبنى بعد ما يبنيه، ومايقدرش يرسم خط خارج محددات القوانين والقواعد اللانهائية اللي بتحكم قطاع الإنشاءات كله.

العمارة كمان هندسة بما إن المعماري لازم يكون ملم بأساسيات معظم فروع الهندسة، بس مش هندسة أوي لإن مفهاش العمود الفقري للهندسة وهو دراسة الرياضيات “Maths”، والحقيقة ان الهندسة ما هي إلا Maths وبيركب عليها أي حاجة بعد كده، وعشان كده في مصر هتلاقي قسم العمارة في كلية الهندسة وفي كلية الفنون الجميلة كمان، الدولة نفسها مش عارفة تقرر العمارة دي هندسة ولا فن، لكن في العالم المتقدم فيه كلية مستقلة اسمها كلية العمارة مش تبع حاجة تانية، والمعماري “architect” بيتبع جهات مهنية مختلفة عن المهندس “engineer”.

لو عايز تعريف بسيط ومختصر للمعماري، هو زي المخرج في السينما، هو قائد فريق العمل وهو اللي بيتنسب له المبنى زي ما بيتنسب الفيلم للمخرج، وفريق العمل ده مجموعة متشابكة ومعقدة من التخصصات (معماريين تانيين ومهندسين إنشائيين وكهرباء وإلكتروميكانيكس ولاندسكيب وطرق وgreen building وجودة وسلامة غير الإداريين وبتوع الكميات والمواصفات والمناقصات وعدد لا نهائي من الـsuppliers)، المعماري هو اللي ماسك خيوط التخصصات دي كلها وبيوفق بينها وبيحل التعارض اللي بيحصل بينهم بما فيه من خناقات ومفاوضات وحلول وسط (البحث عن حلول وسط دي هي قصة حياة أي معماري، عشان كده المعماري لما يتقاعد ممكن أوي يمسك باب مشكلات القراء في أي مجلة)، وعشان كده في النهاية المعماري هو صاحب القرار لإن هو اللي شايف الصورة الكاملة اللي كل تخصص شايفها من زاويته هو بس.

بالمناسبة في خلط شائع بين المعماري والإنشائي، الإنشائي جزء من فريق العمل ودوره باختصار تصميم الهيكل الإنشائي للمبنى اللي صممه المعماري (التسليح، الكمرات، الأعمدة، الأساسات، …) بينما دور المعماري تصميم المبنى نفسه كفراغات وواجهات عشان يحقق الوظيفة المطلوبة من بناؤه (سكني، مدرسة، مستشفى، مطار، مسجد، مول، فندق، …) بالحد الأقصى من الكفاءة اقتصاديًا وجماليًا ووظيفيًا ونفسيًا وبيئيًا وفي إطار القوانين والأكواد اللي بتنظم البناء في المنطقة وبالتنسيق مع جيش العمل اللي اتكلمت عنه قبل كده، وده موضوع يطول شرحه جدًا، وده كمان من غير ما نتكلم عن التصميم الحضري وتخطيط المدن، ممكن ترجع للتدوينة دي عشان تعرف ازاي المعماري بيتحكم في أدق تفاصيل حياتك.

قسم عمارة وسنينه:

أول صدمة أخدتها لما دخلت القسم اني لقيته اتجدد والأوضة اللي كان فيها رسمة منير اتكست بتجاليد خشب واتخصصت للدكاترة، ده غير اني فشلت في إني أعرف مين اللي رسمها برضه، بس اندمجت بسرعة مع العالم الجديد ده، كلنا كنا مخضوضين في الأول من إيقاع الدراسة المختلف تمامًا ومن طبيعة الدراسة نفسها، معظم المواد ملهاش “منهج” محدد، مفيش كتب أو ملازم تذاكر منها، ومفيش مذاكرة بالمعنى الدارج، بس فيه تعب وضغط عصبي وإرهاق بدني فظيع، وفيه كمان صحبة حلوة وجو لطيف كونت فيه مخزون من الذكريات لسه مكفيني بعد 17 سنة من التخرج وعملت صداقات أقوى من أي فترة تانية، طبيعة الدراسة قايمة على التعاون وتكوين فرق عمل، ده غير اننا كنا بنبات في الكلية (بنبات فعلًا بمعنى اننا كنا أحيانًا بنوصل لـ4 أو 5 أيام متواصلة جوه القسم مانخرجش منه أو نخرج ناكل أو نخطف ساعتين نوم ونرجع تاني) وده عشان وقت المشاريع كان لازم نرسم المشروع كله في الكلية مانخرجش بيه بره، وطبعًا البيات ده كان بيبقى بشكل غير رسمي وبالاتفاق (مشيها اتفاق) مع حرس الكلية، عشان كده مش بتبقى صداقة وبس، بتبقى عشرة عمر وعيش وملح وذكريات أيام حلوة وأيام صعبة، أظن ان الوضع ده مابقاش موجود حاليًا بعد ما الكمبيوتر سيطر على الوضع ومابقاش في معنى للشرط ده، ودخول الكمبيوتر ده بقى قصة تانية.

إحنا كنا أول دفعة تبتدي تستخدم الكمبيوتر بدل الرسم اليدوي، كنا 5-6 تقريبًا اللي أخدنا الخطوة الخطيرة دي على مسئوليتنا الشخصية وكنا أول ناس في تاريخ الكلية تقدم مشروع التخرج بالكمبيوتر، وبما إنه مكانش فيه حالات سابقة فمكانش فيه آلية للتعامل معانا ومكانش فيه ترحيب من الدكاترة كمان، مثلًا واجهنا مشكلة ازاي ندخل الأجهزة للكلية ونخرجها منها (إحنا هنا بنتكلم عن أجهزة ديسكتوب وشاشات كبيرة من بتاعة زمان مش لابتوب ولا إل سي دي) لإن حرس الكلية كان عايز ورق رسمي يسمح لنا بيه بالدخول والخروج وده مكانش متاح فطبعًا عملنا مغامرات زي اننا نخبي الأجهزة في شنطة عربية معيد من أصحابنا عشان المعيدين مسموح لهم يدخلوا الحرم الجامعي بعربياتهم، أو نستخبى إحنا والأجهزة في الحمام لما الأمن يعدي، وحاجات زي كده، العجيب اني لما رحت اتدرب في مكتب الدكتور اللي كان بيقود الحملة ضد استخدام الكمبيوتر أول سؤال سأله كان: بتعرف تشتغل كمبيوتر؟!!! بعد كده بدأ الكمبيوتر يبقى مقبول في القسم، وبعدين بقى شائع، وفي الآخر بقى ضروري، بس ده طبعًا بعد ما اتخرجنا.

دي صور حقيقية من دفعتي (وقتها طبعًا مكانش كل واحد شايل كاميرا في جيبه، التصوير مكانش حاجة سهلة) ودول أساتذتي في الوقت ده:

ودي بقى صور مشابهة لطلبة العمارة في العالم، يعني الحكاية مش حالة خاصة عندنا بس:

7665 Total Views 4 Views Today
Husseinعن صورة منير المرسومة بالفحم.. عن العمارة وسنينها