هل تعرف ماذا كان التحدي الأكبر امام منتخب مصر في مباراته الثانية ضد غانا؟ إنه الوقت !
يمكنك تسجيل 5 أهداف في مرمى غانا بل وأكثر إذا امتلكت الإرادة وإذا توفر لك الوقت الكافي .. ولكن لا يمكن تحقيق ذلك في 90 دقيقة بأي حال من الأحوال، عفوًا .. لا يوجد ما يمكن فعله لتغيير هذه الحقيقة!
هذا بالضبط ما يشعر به الرجل في محطة الأربعين، مضى نصف العمر (بافتراض أنه سيعيش ثمانين عامًا وهو مالم يعد شائعًا، أنا شخصيًا لا أتمنى أن أعيش حتى الثمانين) ولم يعد يتبقى الوقت الكافي لتعويض ما حدث بالفعل من إخفاقات وإحباطات وفرص ضائعة واختيارات خاطئة، لا يمكن تغيير الماضي ولا يوجد الزمن الكافي – وربما لا توجد القدرة – للاستدراك!
لقد مرّ بالكثير من التجارب، تعامل مع آلاف البشر، سافر إلى بلاد كثيرة، اكتسب ما يكفي من الخبرات أكاديميًا وعمليًا، في الغالب يكون قد حقق الكثير من النجاح الذي يستحق أن يحسده عليه من هم أقل عمرًا واستقرّت حياته وأنشأ أسرة، قطع شوطّا كبيرًا في المشوار التقليدي لأي شخص طبيعي، بالتأكيد لديه الكثير مما يخاف عليه ويخشى فقده، عمل – أسرة – ممتلكات مادية – … نعم لديه الكثير مما يستوجب شكر الله وحمده حمدًا كثيرًا بلا شك.
هو – كما يبدو من الخارج – يمتلك الكثير من مقوّمات السعادة، لكن هل يمتلك السعادة ذاتها؟ هل هو حقّا سعيد؟ أم يظن فقط أنه سعيد؟ أم يدّعي – حتى أمام صورته في المرآة – أنه سعيد؟
أو لنضع السؤال بطريقة أخرى، فربما لا يوجد على هذا الكوكب اليوم من هو سعيد فعلًا، فهل هو راضٍ عن وضعه الحالي؟ هل هو اليوم الإنسان الذي تمنّى أن يكونه عندما كان يحلم منذ عشرين سنة؟ – أستدرك هنا أن الرجل في محطة منتصف العمر لا يحلم، هو فقط يحاول اجترار ما كان يحلم به وقت أن كانت لديه رفاهية الحلم -.
السؤال الأهم هنا هو: هل ما زال بالإمكان تحقيق الأحلام؟ وهل بقي في العمر ما يكفي لذلك؟ الإجابة ليست بهذه البساطة.
الرجل في محطة منتصف العمر شديد الحساسية، شديد التقلّب المزاجي، شديد الحنين إلى تفاصيل الماضي البسيطة كأنما يتشبث بآخر الخيوط الواهية التي تثبت انتماءه لذلك “الزمن الجميل” الذي لم يكن بالضرورة جميلًا وقت أن عاشه، لكنه أصبح كذلك مع تراكم الغبار على الذكريات التي أصبحت بمرور السنوات ضبابية، وذلك بالتحديد هو ما يجعلها جميلة ومثيرة للشجون.
أظن أن من اخترع الكلمة الانجليزية “vulnerable” كان يقصد بها وصف حالة الرجل في محطة منتصف العمر، هو شخص هش سهل الاختراق، لا يمتلك ما فيه الكفاية من وسائل الحماية ومعرض للسقوط أكثر من أي وقت آخر.
حسب تعريف Wikipedia لأزمة منتصف العمر (Midlife crisis) يعود أحد أسباب الأزمة إلى “andropause” وهو ما يكافئ انقطاع الطمث عند النساء أو ما يُعرف بسن اليأس، ومع احترامي لوجهة النظر الأكاديمية لا أعتقد أن ذلك صحيح بل أظن أن سبب المشكلة هو العكس تمامًا، فالرجل في الأربعين من عمره يصل لقمة قدرته ونضجه، ولكن في التوقيت غير المناسب!
ملحوظة: هذه التدوينة ليست بحثًا أكاديميًا فأرجو عدم التعامل معها على هذا الأساس.
ربما يتصرف أحيانًا – وعلى غير عادته – بتهوّر، ربما يرتكب حماقات ليست من طبعه ولا تناسب شخصيته، قد يسميها البعض “مراهقة متأخرة” وربما هي كذلك فعلًا، ولكنّي أظنها محاولة للتشبث بالحياة الجميلة، محاولة يائسة للبقاء في دائرة “الشباب” بعد أن غزت حياته مؤشرات خروجه الحتمي من تلك الدائرة، فالشعيرات البيضاء القليلة والمتناثرة هنا وهناك والتي سعد بها في البداية تكاثرت على شعره ولحيته، قوامه الرياضي الرشيق يتحول تدريجيّا إلى النموذج التقليدي للموظف المصري، يُصدم أحيانا حين يرى نفسه ويتساءل ما الذي أوصل شاب الأمس اليافع إلى الرجل المهموم الواقف أمامه في المرآة؟ كيف حدث ذلك؟ وأين كان هو وكل ذلك يحدث؟ وهل من سبيل لوقف ما يحدث؟
في محطة منتصف العمر يكون الرجل قد فقد بالتدريج اهتمامه – أو وَلَعه القديم – بكل ما كان يملأ عليه حياته في الزمن الجميل، يتابع مباريات الكرة المصيرية بوقار وبأدنى حد من الانفعال وهو مسترخٍ على أريكة ونصف عقله مع شاشة هاتفه بعد أن كان يرتّب لحضورها في الملعب من الشهر السابق للمباراة – كان يستفزني قديمًا المعلق محمود بكر وهو يعلق على مباريات حماسية برزانة محلل سياسي ولا ينفعل مع الأهداف وكأنما شاهد المباراة من قبل .. الآن فهمت -.
لم تعد تستهويه الموسيقى والسينما كما كان منذ سنوات إلا ما يذكره منها بالزمن الجميل، لا يعرف أصلًا معظم الأسماء التي صارت مشهورة لاحقًا، ينظر للشباب اليافع الممتلئ حماسًا لأي شيء بمزيج من السخرية والحسد، حتى مواقفه السياسية أصبحت أهدء وأقل راديكالية، أصبح يتقبل الحلول الوسط – بل ويفضّلها – صار يقيّم المواقف من بعيد ولا ينشغل بالتفاصيل، تزعجه كثيرًا مناقشة التفاصيل.
باختصار، لم يعد في هذا العالم ما يثير دهشته، وما أدراك كيف هو فقدان الدهشة!
الرجل في هذه المحطة مكبّل بكل ما في العالم من قيود، مضى زمن الحريّة، الحياة الآن هي قائمة طويلة من الالتزامات والاحتياطات والاشتراطات الصارمة، لا يمكنه إلا أن يكون قطارًا ملتزمًا بمساره المحدد سلفًا، ينطلق ويصل في مواعيد ثابتة لا يمكنه تجاهلها لأن هناك من يعتمد عليه وتسير حياته طبقّا لذلك الالتزام، لا يمكنه بالطبع فقدان ثقة من يعتمدون عليه لمجرد رغبته الصبيانية في ممارسة القليل من المراهقة .. لا يمكنه ذلك.
أقسى ما في الحياة هو منتصفها، فلا أنت في البدايات حيث الدنيا بأسرها أمامك ولا أحد معلّق برقبتك والأحلام “مجّانية”، ولا أنت قرب النهاية متقاعد بلا التزامات تتنفس نسمات الحكمة وتنظر للماضي كفيلم سينمائي متكامل وتستعد للرحيل، أنت في منتصف الفيلم الذي تقوم فيه بدور البطولة، لا يمكنك العودة للخلف لتغيّر مسار الأحداث، لا يمكنك التغيير إلا من النقطة اللي أنت متوقف فيها، ولا تعرف كيف تفعل ذلك .. أو ربما لا تجرؤ على ذلك.