تتصاعد انتقادات التيارات السلفية والجهادية للرئيس الإخواني وجماعته، ما على هذا بايعناك (“انتخبناك” حسب المصطلح العلماني الذي قبلناه على مضض من باب محاربة أهل الباطل بسلاحهم)، أين تطبيق شرع الله الذي وعدت به؟ أين شعارات جماعتك التاريخية؟ أين “قادم قادم يا إسلام” و”ع القدس رايحين شهداء بالملايين” و”خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود”؟ كيف تهادن اليهود الذين يقتلون إخواننا في فلسطين وتتعاون مع الأمريكان الذين يقتلون إخواننا في أفغانستان وتمدح الروس الملاحدة الذين يقتلون المجاهدين في الشيشان ويدعمون بشار في قتل أهل السنة في سوريا؟ بل كيف تدعو رئيس دولة المجوس وتسمح له بممارسة البدع والشرك؟ أما علمت خطر الشيعة الروافض؟
ما على هذا بايعناك!
مع تصاعد معارضة السلفيين وعلو صوتهم ومع خروج أقاليم كاملة من البلاد من سيطرة الدولة إلى حكم الجماعات الجهادية بشكل شبه رسمي ومتوافق عليه، يزداد تخبط القيادة الإخوانية لفقدها التأييد المطلق لقطاعات عريضة من الشعب من ناحية ولفشلها في تحقيق وظائف الدولة (غذاء وطاقة وأمن وخلافه) من ناحية أخرى، وهنا يظهر الحل السهل، فلنشدد القبضة الأمنية على المعارضين من أجل حماية مسيرتنا نحو النهضة (اسمها هنا النهضة وفي أزمنة وأمكنة أخرى كانت “إرادة قوى الشعب العامل” أو “مقاومة الاستعمار” أو “حماية مكتسبات الثورة” .. أيا كان الاسم ففقد احتاجت دائمًا لقبضة أمنية مشددة حتى لا يغرّر المعارضون – الذين هم بالضرورة عملاء لجهة ما – بالشعب الطاهر – الذي هو بالضرورة في صف السلطة).
تيارات أصولية مسلحة تكفّر الحاكم والدولة والمجتمع ومدعّمة بأموال وأسلحة من الخارج – سلفيون ثوريون يسيرون معصوبي الأعين خلف قائدهم الباحث عن الزعامة والذي يرى العالم كله على جبهته كلمة “كذاب” إلا هم – تدخلات من قوى إقليمية تسعى لزيادة حصتها من كعكة النظام الجديد في مصر، مع تزايد الضغوط السياسية والاقتصادية على النظام الإخواني من جهة وتزايد الضغوط الأمنية على التيارات الأخرى من جهة ثانية يصبح الصدام حتميًا .. يصبح الانفجار مسألة وقت!
يفعلها الجهاديون مرة أخرى (فقد مرت الأولى في رمضان الماضي دون أدنى رد فعل من الدولة) ولكنهم في هذه المرة يوسّعون نطاق وأهداف العملية بمساعدة العناصر الإرهابية التي تدفقت على البلاد من الخارج في آخر عامين حاملةً معها خبرات شيطانية طويلة، هذه المرة عملية كبيرة استهدفت نقاط الحدود مع إسرائيل وأسقطت عشرات الجنود المصريين وبضع عسكريين ومدنيين إسرائيليين وجعلت حكومة تل أبيب تعقد اجتماعًا طارئًا لبحث الرد بقوة على “العدوان المصري”.
النظام الإخواني يتخبط تحت وقع الضربات المتلاحقة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وأخيرًا التهديد الإسرائيلي بحرب صريحة ما لم يسارع بالقبض على منفذي العملية وتسليمهم لإسرائيل .. يتحاور الرئيس مع مكتب إرشاده ويقرر “المجلس الرئاسي” هذا التشبث بالقشة الباقية له بدلًا من الغرق في دوامة حرب يعرف جيدًا أنها أعلى من قدراته .. ويقرر تكليف جميع أجهزة الدولة الأمنية سواء التابعة للداخلية أو للقوات المسلحة والمخابرات بالقبض على الجناة “ولهم في سبيل ذلك اتخاذ ما يرونه من تدابير”!
تعود الاعتقالات الجماعية واحتجاز الأقارب والنساء وحملات المداهمة غير الملتزمة بأوامر قضائية، وتعود ممارسات قانون الطوارئ والقوانين العسكرية والمعاملة غير الآدمية للمحتجزين .. وكأن “أعظم دستور عرفته البشرية” لم يُكتب!
يصل غضب الجهاديين إلى أقصاه مع عودة التعامل معهم كما كان أيام النظام القديم، ويزداد إحباط السلفيين من طعنهم في الظهر بعد أن كانوا ملكيين أكثر من الملك، بعد أن ساندوا الإخوان باسم الدين وخاضوا المعارك بالنيابة عنهم في مواجهة خصومهم السياسيين وسكتوا عما رأوه داخل أروقة الحكم من نوايا خبيثة حتى لا يُشمتوا “أعداء المشروع الإسلامي”، يترسخ يقينهم الآن بأن الدائرة ستدور عليهم حتمًا وأنهم أُكلوا يوم أُكل أصدقاؤهم الجهاديون، خرجوا بمظاهرات قابلها الأمن بالعنف، هاجموا الإخوان في منابرهم الإعلامية ذات الشهرة ونسب المشاهدة العالية فقام وزير الإعلام الإخواني بإغلاقها بثغرة ما في قانون ما صدر منذ قرن ولم يستخدمه أحد، كما زاد انقسام مشايخ السلفية الكبار (بعد أن كانوا قد انقسموا بالفعل إلى مدرسة الإسكندرية الأكثر أصولية ومدرسة القاهرة الأميل لطاعة الحاكم أيًا كان) فأصبح المشايخ – ذوو اللحوم المسمومة – يسبّون بعضهم البعض علنًا على القنوات الدينية التي انقسمت بدورها تبعًا لميول أصحابها ومموليها تجاه أحد الطرفين، بينما يتخبط الأتباع في الشوارع تحت وطأة هذه الصدمات في شيوخهم الذين كان مجرد التفكير في احتمال أن يلحق بأيّ منهم نقص ما هو ذنب عظيم يستوجب التوبة وتجديد الإيمان.
تلقي المخابرات الحربية القبض على منفذي العملية ويقرر الرئيس تسليمهم إلى إسرائيل لأن الحادث (كما ورد في التبرير الرسمي المعتمد من المقطم والمطابق لما أعلنه سابقًا المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي) حدث داخل الأراضي الإسرائيلية بـ20 مترًا، وتكشف التحقيقات عن تورط زمرة من كبار المشايخ في دعم العملية أو التحريض عليها أو التأصيل الفقهي لإباحتها، بالإضافة لتورط عناصر أجنبية مطلوبة للعدالة في دول عدّة في التخطيط والدعم اللوجستي، فتطالب إسرائيل بتسليمهم جميعًا ليحاكموا في تل أبيب.
ثم يُقتل الرئيس، هكذا فجأةً ودون سابق إنذار، يصاب بطلق ناري وهو خارج من صلاة الجمعة التي أصبحت المناسبة الوحيد التي يخرج فيها علنًا منذ شهور.
يسارع الجميع إلى نفي تورطهم في مقتل الرئيس (شهيد المحراب كما أصبح يُعرف الآن) يل وتتصاعد الاتهامات المتبادلة بين الفصائل المختلفة ويحمّل بعضها البعض مسئولية قتل الرئيس و”جر البلاد إلى دوامة العنف”، تبدأ بعض التنظيمات في استعراض ما تملكه من أفراد وتسليح علنًا في ظل غياب شبه تام لسلطة الدولة وإحجام من الجيش عن التدخل إما منعًا لتكرار تجربته السيئة في الاحتكاك المباشر بالمواطنين في السنتين التاليتين للثورة أو تهيئةً للمواطنين للمطالبة بتدخل حاسم يُنهي حالة الفوضى ويُدخل البلاد إلى عصر حكم عسكري يستند هذه المرة إلى تأييد شعبي مطلق.
حوادث متفرقة هنا وهناك تأتي كنتيجة طبيعية لاحتكاك الفصائل ببعضها البعض في غياب السلطة الرسمية ومحاولة كل فصيل فرض سيطرنه رسميًا على مناطق نفوذه، هنا إخوان وهناك جهاديون وسلفية جهادية وسلفية علمية وجماعة إسلامية وحازمون وكتائب الشهيد فلان وأنصار الشيخ علان، فتنشأ بالتالي كانتونات منفصلة داخل المدن يخضع كل منها لسيطرة فصيل ما وتتقاطع مع بعضها البعض في محاور حدودية دائمة التوتر لا يمر أسبوع إلا ويقع فيها قتيل أو أكثر.
لا يعرف أحد تحديدًا متى تيدأ الحرب الأهلية، ولكنهم يدركون وهم في أوجها أنها قد بدأت بالفعل منذ زمن دون أن يدركوا إرهاصاتها، يدركون أنهم رسميًا في حالة حرب حين تكون كل فرص التراجع قد ضاعت وكل المراكب قد أُحرقت.
ولكن ماذا عن باقي التيارات السياسية؟ أين ذهب الليبراليون واليسار بمختلف فصائله؟ هذا سؤال ساذج! وهل كان في الحرب الأهلية الأفغانية ليبراليون؟ الحرب دائرة بين تيارات جميعها يعتقد أنه يملك ماء السماء الطهور ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جميعها يجزم أنه هو الفرقة الناجية، أما من يفصلون الدين عن السياسة فهم خارج المشهد تمامًا في الداخل بعد تصفية بعضهم جسديًا وتصفية الآخرين معنويًا بتشويه السمعة والتكفير وبعد أن وصل انقسامهم وخلافهم الأيدلوجي إلى حد مثير للشفقة حتى لم يبق لهم تأثير يُذكر مع هجرة معظم مؤيديهم خارج البلاد واقتصار وجودهم على بعض مؤتمرات صحفية للمعارضة في الخارج، وربما يعودون يومًا ما على مدافع دبابات حلف الأطلنطي تحت قيادة “جلبي” جديد أو “كرزاي” جديد!
هذا السيناريو تخيلي تمامًا وإن كان غير مستبعد الحدوث طالما ظل من يديرون الدولة يتعالون على حقائق التاريخ والمنطق، حدث ذلك من قبل في أفغانستان والصومال ومالي ولبنان والعراق والجزائر وفلسطين، فأي ضمان عندنا يمنع تكراره في مصر؟ إن من يتجاهل دروس الماضي هو كمن يذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم شاهده قبل ذلك عشرات المرات وهو على يقين بأن البطل سوف ينتبه – في هذه المرة بالذات – للسهم القادم من خلفه وينجو من الموت ثم يقضي على الأشرار!