من كتاب “في النظام السياسي للدولة الاسلامية”
للدكتور محمد سليم العوا
ذهب جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أن الأحكام في جملتها وتفصيلها جاءت لتحقيق مصالح الناس، وأنه ما من حكم كلي أو جزئي إلا ويقصد به المحافظة على مصلحة خاصة، وأن المصالح ترجع في النهاية إلى المحافظة على أحد الأمور الخمس “النفس والعقل والعرض والمال والدين”، على أن تحقيق هذه المصالح ورعايتها إنما يكون وفق القواعد العامة الإسلامية التي يعد الالتزام بها والتمكين لها جزءاً من واجب الحكومة في الدولة الإسلامية.
ويجدر هنا أن نشير إلى أصلين أساسيين في هذا الموضوع:
الأصل الأول: أن القواعد الإسلامية التشريعية قد عنيت – في الغالب الأعم – بتقرير الأحكام الكلية التي يندرج تحت كل منها ما لا يحصى من الحالات الجزئية، فقد صيغت القواعد الإسلامية وفقاً لوضع معين كما يقرر الأستاذ الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر من 1958 إلى 1963) هو: “تفصيل ما لا يتغير وإجمال ما يتغير، فليس من المعقول أن تعرض شريعة جاءت على أساس من الخلود والبقاء والعموم لتفصيل أحكام الجزئيات التي تقع في حاضرها ومستقبلها، فلا مناص إذن من هذا الإجمال والاكتفاء بالقواعد العامة”.
وعلى ضوء هذه الكليات من القواعد يستطيع المجتهدون من الفقهاء أن يستخرجوا أحكام الحالات الجزئية التي تعرض في عصر ما ومكان ما، مراعين في ذلك ظروف الزمان والمكان، ولا يحتاج ما يوفره هذا النهج التشريعي من مرونة وملاءمة بين الأحكام والوقائع في تطبيق الأولى على الثانية إلى كثير بيان. ويكفي هنا أن نشير إلى بعض هذه القواعد التي لا يكاد يخرج عن مجموع الأحكام المستقادة منها أمر مما يعرض للمسلمين في حياتهم المتجددة المتطورة، فمن هذه القواعد “الأمور بمقاصدها” و”الأصل في الأشياء الإباحة” و”المشقة تجلب التيسير” و”الحاجة تنزل منزلة الضرورة” و”العادة محكمة” و”تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” و”كل تصرف تقاعد على تحصيل مقصوده فهو باطل”.
وأحكام هذه القواعد العامة مقدمة على غيرها، ولذلك بين الإمام الشاطبي أن “المقصود بتمام الدين وكماله ليس تحصيل الجزئيات بالفعل، فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل”.
الأصل الثاني: هو ما يقرره الفقهاء من أنه يجوز لولاة الأمور من المسلمين أن يتخذوا من القرارات ويضعوا من النظم ما يحقق مصالح الناس والعدل بينهم، ويدخل ذلك تحت ما سماه الفقهاء “السياسة الشرعية”، وأساس إقرار هذه السلطة للحكام فيما يعبر عنه الإمام ابن قيم الجوزية: “إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذى قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأى طريق كانت فثم شرع الدين ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته فى نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التى هى أقوى منه، وأدل وأظهر بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأى طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها وبمقتضاها”.
وقد صاغ الفقهاء هذا الأصل بقولهم “إن من مبادئ الشريعة التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية” كما يقول الأستاذ حسن العشماوي ويؤكد صحة قوله صنيع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما استفاده من تنظيم الفرس لدولتهم ونقله إلى النظم الإسلامية كنظام الدواوين ونظام البريد ونظام العسس (الشرطة) وغيرها، وفي هذا الصنيع رد كاف على الذين لا يجيزون إلا اقتباس التكنولوجيا وما شابهها من النظم دون النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن هنا جاز لولاة الأمور – بل وللمسلمين بوجه عام – أن يقتبسوا ما هو صالح نافع من أي مكان، وأن يأخذوا بأفضل السبل التي تؤدي إلى تحقيق مصالح الناس، وسواء في ذلك أكانت تلك الوسائل من ابتكارهم لمواجهة ضرورات تطور المجتمع وحاجاته أم كان قد سبق إليها غير المسلمين من الأمم وتبين ملاءمتها كذلك لتحقيق مصالح المجتمع المسلم أو حل مشكلات حياة الناس فيه، على أننا ينبغي أن ننتبه إلى الفرق بين الأخذ بحل عملي لمشكلة ما وبين الأخذ بالأسس الفكرية أو العقائدية التي قد يكون الحل مبنياً عليها.